آلاف الجزائريين يخرجون للاحتفال باستقالة بوتفليقة من منصبه (AFP)
تابعنا

تحت شعارات الرحيل الصارخة من أفواه ملايين الغاضبين، اختار الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة مصير من سبقه من الرؤساء العرب، ليستقيل من منصبه بعد عشرين عاماً من السلطة والحكم.

استحق تكرار المشهد لثماني سنوات، فبعد المشاهد المختلفة لرؤساء تونس ومصر وليبيا واليمن، عندما أبعدتهم مطارق الجماهير الغاضبة قتلاً أو هرباً أو تنحياً، اختار بوتفليقة رحيلاً اضطرارياً واستقالة إجبارية.

جاء قرار بوتفليقة في آخر شهر من ولايته الدستورية، بعد أن رددت قوى كثيرة من المحيطين به صدى غضب الجماهير، وفي مقدمة هذ القوى قادة الجيش الذين تخلوا عنه وطالبوه في رسالة عسكرية صارمة بالتنحي الفوري دون إبطاء أو تأجيل.

ورغم أن استقالة الرئيس بدت في شكلها لا في حقيقتها فعلاً اختيارياً، فإنها مثلّت من الناحية الدستورية مخرجاً يُعفي الرئيس ابن الـ82 عاماً من الخلع تحت طائلة العجز.

ورغم ذلك عكست الاستقالة حالة العجز التي واجهها الرئيس الجزائري من مغالبة تيار الجماهير الرافضة لاستمرار الرئيس المقعد في كرسي الرئاسة.

مواجهة العهدة الخامسة

40 يوماً من الاحتجاج والتظاهر والمطالب كانت كافية لرحيل عبد العزيز بوتفليقة من سدة الحكم، وعلى غرار من سبق، لم يخرج الرئيس الجزائري عمّا حصل في ربيع 2011، حيث لم يصمد مثلهم أمام صيحات الشارع القوية، والضغط القوي من الدولة العميقة.

بدأت مسيرة الضغط على بوتفليقة مع إعلان ترشيحه لولاية جديدة من قبل حزب جبهة التحرير الوطني الحاكم رغم وضعه الصحي المنهك، في 9 فبراير/ شباط الماضي.

لينطلق بعدها، الغضب الشعبي في 15 فبراير/شباط الماضي، عندما خرجت أول مسيرة رمزية ضد ترشح الرئيس بوتفليقة لعهدة خامسة، من ملعب الشهيد رويبح حسين، بولاية جيجل شرق البلاد.

الانطلاق الفعلي للمسيرات كان يوم الجمعة 22 فبراير/ شباط عندما استجاب الجزائريون لدعوات على منصات مواقع التواصل الاجتماعي، ورغم عمليات قطع الإنترنت والهاتف النقال وقتها، فإن حجم المتظاهرين كان ضخماً.

حاول بوتفليقة وقتها استيعاب المسيرة ومطالب الشعب وقدّم خارطة الطريق رقم 1 من خلال مدير حملته عبد الغاني زعلاني، تقضي بتقليص العهدة الرئاسية الخامسة إلى سنة واحدة، يُنظم خلالها ندوة وطنية، تتوج بتعديل الدستور والتأسيس لتغيير النظام، والتي طُرحت عند وضع ملف الترشح على مستوى المجلس الدستوري، في 3 مارس/ آذار الماضي.

ليرد الشعب الجزائري على هذه الخطة بالرفض المطلق، في مسيرات عارمة بتاريخ 8 مارس/آذار، تزامنت مع اليوم العالمي للمرأة، ما أعطى فرصة لمشاركة واسعة للجزائريات فيها.

وفور عودته من رحلة علاجية من جنيف السويسرية، عيّن الرئيس الجزائري، في 11 مارس/آذار، وزير الداخلية نور الدين بدوي وزيراً أول، خلفاً لأحمد أويحيى المستقيل، في محاولة جديدة لامتصاص حراك الشارع، عُرفت بخارطة الطريق رقم 2.

واقترح بوتفليقة خطة عمل، من خلال الانتخابات الرئاسية، واقترح تنظيم ندوة وطنية، تتوج بإصلاحات عميقة تفضي إلى انتخابات رئاسية، ليسلم بعدها صلاحيات ومهام رئيس الجمهورية للرئيس المنتخب.

إلا أن الشعب الجزائري رفض مرة أخرى في مسيرات حاشدة هذه الخطة، في مسيرة الجمعة 15 مارس/آذار، كما اتضح ارتفاع سقف المطالب إلى ضرورة رحيل كل الوجوه التي قدمها بوتفليقة لقيادة الحكومة وتسيير الأزمة.

الجيش على الخط

مثّل يوم الـ18 مارس/آذار، منعطفاً هو الأكبر في مسار الاحتجاجات، عندما تطرق الجيش الجزائري بقيادة نائب وزير الدفاع الوطني، رئيس أركان الجيش الوطني الشعبي، الفريق أحمد قايد صالح، لأول مرة للأزمة السياسية التي تعرفها البلاد، واصفاً "ما يجري مشكلة، ولكل مشكلة حلول".

في ذات اليوم، أصدر بوتفليقة رسالة بمناسبة عيد النصر، تمسك فيها بخطته القائمة على تنظيم ندوة وطنية، وتسليم السلطة لرئيس منتخب.

بالتوازي مع ذلك، تواصل الضغط الشعبي، للجمعة الرابعة على التوالي، وتظاهر الجزائريون بالملايين في الولاية كافة، في 22 مارس/آذار، مجددين رفضهم المطلق لاستمرار بوتفليقة في الحكم، معتبرين خطته "تمديداً غير دستوري للحكم".

وأمام عدم رد بوتفليقة، على مسيرات الجزائريين بمبادرات أخرى، استشعر الجيش حساسية الوضع، وتوجهه نحو انسداد خطير، ليعود الفريق أحمد قايد صالح في 26 مارس/آذار، للحديث عن الوضع، معتبراً هذه المرة أن "البلاد تعرف أزمة، لن تحل إلا في إطار دستوري، وبتفعيل المادة 102 من الدستور"، التي تنص على شغور منصب رئيس الجمهورية بسبب المرض أو الاستقالة أو الوفاة.

لم تستجب رئاسة الجمهورية والمجلس الدستوري، لمقترح الجيش بتفعيل الآليات الدستورية لإنهاء حكم بوتفليقة، وضمان مخرج دستوري للأزمة.

ورد الشعب الجزائري بالتظاهر في جمعة 29 مارس/آذار، مرددين شعارات تطالب برحيل بوتفليقة وجميع رموز نظامه، ومطالبين بتفعيل المادتين 7 و8 من الدستور بدلاً من المادة 102.

في اليوم التالي 30 مارس/آذار، عقدت قيادة أركان الجيش برئاسة أحمد قايد صالح، اجتماعاً عاجلاً جددت فيه ضرورة تفعيل المواد 7 و8 و102 من الدستور، لإنهاء الأزمة.

وكشفت فيه معلومات خطيرة، تتعلق باجتماع جهات وصفها "بغير الدستورية"، حضرت فيه لشن حملة تشويه ضد الجيش عبر وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي.

هذه الجهات سرعان ما اتضح أنها الشقيق الأصغر للرئيس، السعيد بوتفليقة، وقائد جهاز المخابرات السابق، محمد مدين المدعو توفيق، والرئيس السابق اليمين زروال وعرض على الأخير قيادة مرحلة انتقالية، وفق خريطة طريق، قابلها بالرفض، حسب وكالة الصحافة الفرنسية.

الرحيل: المصير الوحيد

ردت الرئاسة الجزائرية في 31 مارس/ آذار، على بيان قيادة الأركان، بتعيين حكومة يرأسها الوزير الأول بدوي، لقيت رفضاً شعبياً، وأثارت غموضاً واسعاً بعد وجود الفريق أحمد قايد صالح ضمنها بحقيبة نائب وزير الدفاع.

وفي الأول من أبريل/نيسان، أصدرت رئاسة الجمهورية بياناً، قالت فيه إن "الرئيس بوتفليقة سيتخذ قرارات هامة، قبل أن يقدّم استقالته من الحكم دون انتظار نهاية عهدته في 28 أبريل الجاري".

وفي الثاني من أبريل/نيسان، ترأس الفريق أحمد قايد صالح، أكبر اجتماع للجيش الجزائري منذ عقود، وحضره قادة القوات البرية، والبحرية، والجوية، وقوات الدفاع الجوي عن الإقليم، وقادة النواحي العسكرية الستة، وقائدا سلاحي الحرس الجمهوري والدرك الوطني.

تُوّج الاجتماع ببيان شديد اللهجة، أكد المخرج الدستوري للأزمة بتفعيل المواد 7 و8 و102 من الدستور.

وهاجم بشدة الدائرة المقربة من الرئيس بوتفليقة، المشكّلة من شقيقه السعيد بوتفليقة، ورجال أعمال صدرت بحقهم قرارات بالتحقيق القضائي، والمنع من السفر.

وقال قايد صالح، إن عصابة استولت على مقدرات الجزائريين، وتحاول الالتفاف على مطالبهم، وإطالة أمد الأزمة وتعقيدها.

بعد أقل من ساعتين على اجتماع كبار قادة الجيش، أخطر الرئيس بوتفليقة، رسمياً المجلس الدستوري باستقالته، واضعاً حداً لحكم استمر 20 سنة.

ما بعد بوتفليقة؟

ككل تحركات الربيع العربي، تُعد الفترة التي تلي رحيل النظام هي الأكثر حساسية في مسار الثورات والمطالب الشعبية، وهذا الحال ينطبق على مصير الجزائر حالياً.

ورغم ردود الفعل الخارجيّة المحتشمة التي اقتصرت على بيان من الخارجية الأمريكية اعتبر فيه المتحدث باسم الوزارة روبرت بالادينو أن "الشعب الجزائري هو من يقرر كيفية إدارة هذه الفترة الانتقالية".

وعلى بيان آخر من وزير الخارجية الفرنسي جان-إيف لودريان عبّر فيه عن ثقة فرنسا بأن الجزائريين سيُواصلون السعي إلى "انتقال ديمقراطي".

في ظل ذلك، ينتاب الشارع الجزائري الكثير من المخاوف في هذه المرحلة خاصة مع عدم وجود ممثلين له في المؤسسات الموضوعة حالياً والمعنية بفترة الانتقال، ومع ترقب للدور الذي سيلعبه الجيش في هذه المرحلة.

ورغم المحاولات الحثيثة، لعدم تكرار سيناريوهات الربيع العربي، فإن معركة تكسير العظام انتهت لصالح قيادة الجيش التي تماهت مع مطالب الشارع، على حساب جناح الرئاسة الممثل في الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، وهو ما يعني أن رئيساً عربيّاً آخر التحق بسرب الراحلين الذي دشنه زين العابدين بن علي في تونس عام 2011.

TRT عربي
الأكثر تداولاً