سفينة "أوروتش رئيس" محاطة بترسانة عسكرية في طريقها إلى قبالة جزيرة قبرص لتستأنف أنشطة التنقيب والبحث (AA)
تابعنا

لم يكن يعلم المجتمعون في مصنع للخزف في ضاحية "سيفر" الباريسية، قبل 100 عام من اليوم، أنهم سيصدرون أزمتهم التي طغى عليها التفوق العسكري وقتها إلى أمد طويل، وأن الوثيقة التي يتفقون عليها من أجل "السلام الدائم" ستكون بمنزلة إعلان حرب للأجيال القادمة.

كانت معاهدة سيفر المنسية في الغرب بمنزلة إعلان الانتصار على الدولة العثمانية وقتها، التي لم تجد القوة لمجابهتها أو حتى الاعتراض عليها، إذ كانت القوات البريطانية تتجول في مدينة إسطنبول، في حين تسقط المدن الأخرى التي تتبعها في يد الدول الأخرى.

إلا أن محاولة مصطفى كمال أتاتورك ترميم أنقاض الجيش كانت خطوة غير متوقعة وقتها من بريطانيا وحلفائها، وانتصاره في معاركه ضدهم، وهو ما ساهم في استعادة الجغرافيا التركية على وضعها الحالي إثر اتفاق لوزان عام 1923، إلا أن أتاتورك لم يكن يخفي رفضه القاطع لمعاهدة سيفر التي تحرم تركيا من حقوقها المائية وحراسة معابرها البحرية.

على بعد قرن من ذلك الاجتماع تقف تركيا على نفس المبدأ، رافضةً كل محاولات حرمانها من حقوقها في شرق المتوسط، وسط حالة توتر كبيرة مع اليونان ومصر وجمهورية قبرص اليونانية وإسرائيل، وبدعم من دول أخرى تصفها تركيا بتحالف الشر، وتصر على مواجهته وعدم الإذعان لسياساته.

سيفر.. معاهدة العقاب

في العاشر من أغسطس/آب 1920 وبعد أشهر من المفاوضات بين المنتصرين في الحرب العالمية الأولى، وقعت معاهدة سيفر ما مهد الطريق أمام تشكيل الشرق الأوسط الحديث، إذ فرض الاتفاق شروطاً على العثمانيين المهزومين وقتها، تعتبر الأكثر عقابية، مقارنة بتلك التي فرضت على ألمانيا في معاهدة "فرساي" في وقت سابق من ذلك العام.

وتنص المعاهدة على منح الجزر التركية الواقعة في بحر إيجة لليونان، واعتبار مضايق البسفور والدردنيل مناطق مجردة من السلاح وتحت إدارة دولية. كما تنص على الاعتراف بكل من سوريا والعراق كمناطق خاضعة للانتداب، وباستقلال شبه الجزيرة العربية واستقلال أرمينيا.

وتضمنت المعاهدة انسحاب الدولة العثمانية من جميع المناطق التي لا تنطق باللغة التركية كلغة أم، وأحقية دول الحلفاء المتمثلة بفرنسا وبريطانيا وإيطاليا بالاستيلاء على المناطق التي انسحبت منها الدولة العثمانية.

وقد رفضت الحكومة التركية في حينه قبول هذه المعاهدة وعملت على إخراج اليونانيين من آسيا الصغرى، وأصرت على تسوية جديدة تحققت لها بالفعل في معاهدة لوزان عام 1923، التي تجاهلت ما أقرته معاهدة سيفر في كثير من البنود.

وكان مؤسس الجمهورية التركية مصطفى كمال أتاتورك بعد توليه الحكم في تركيا في 29 أكتوبر/تشرين الأول عام 1923، أشد الرافضين لما جاء في هذه المعاهدة، إذ اعتبر أن بنودها تمثل ظلماً وإجحافاً بالدولة التركية، وذلك لأنها أجبرت على التنازل عن مساحات شاسعة من الأراضي التي كانت واقعة تحت نفوذها.

يقول إيشان ثارور في مقال له في صحيفة واشنطن بوست: إن "مشاعر الغضب المستمرة لدى قطاعات واسعة من الشعب التركي إزاء انتزاع حقوق من بلادهم في مثل عام 1920 بسبب معاهدة سيفر، هو ما خلق جذوراً لأزمة تتفجر من وقت لآخر بشرق المتوسط".

من جانبه يرى المؤرخ نيكولاس دانفورث، وهو مؤرخ لتركيا القرن العشرين، في مقال له عام 2015، بالتزامن مع الذكرى 95 للمعاهدة وقتها، أنه رغم نسيان معاهدة سيفر بشكل كبير في الغرب، فإن إرثها لا يزال قوياً في تركيا بل ومساهماً رئيسياً في تحركاتها الخارجية، بسبب المزاعم التي يطلقها الديبلوماسيون الغربيون استناداً عليها.

الوطن الأزرق أو الانتقام من سيفر

في 2 سبتمبر/أيلول من عام 2019 ظهر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في احتفال رسمي نظّمته جامعة الدفاع الوطني في إسطنبول وخلفه خريطة غير تقليدية، كُتِب عليها اسم "الوطن الأزرق"، محددة السواحل التي تعتبرها تركيا ملْكاً لها في البحر المتوسط وبحر إيجة.

أظهرت الخريطة "وطن تركيا الأزرق" ممتداً حتى الخط الوسيط لبحر إيجة محاطاً بمجموعة من الجزر اليونانية، كما أظهرت سيطرة تركيا على مساحة كبيرة من سواحل شرق المتوسط تمتد إلى الشاطئ الشرقي لجزيرة كريت اليونانية.

لم تكن هذه أول إشارة من قِبل تركيا إلى مفهوم الوطن الأزرق، إذ تُنسب الفكرة إلى الأدميرال "رمضان جيم غوردينيز" الذي طرحها لأول مرة خلال ندوة في مركز قيادة القوات البحرية التركية في يونيو/حزيران عام 2006، وتضمّنت رؤية لفرض سيادة تركيا على مساحات كبيرة من البحر المتوسط وبحر إيجة والبحر الأسود.

ومن وجهة نظر "غوردينيز" فإن تركيا تعرّضت لظلم كبير في تقسيم حدودها البرية أعقاب معاهدة "سيفر" عام 1920 التي قسّمت إرث الإمبراطورية العثمانية في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وهي تتعرّض في الوقت الراهن لمعاهدة "سيفر" ثانية في البحر، حيث يسعى خصوم أنقرة في اليونان وقبرص ومؤخراً إسرائيل ومصر لتقليص نفوذ أنقرة البحري وحصره في شريط مائي ضيق حول سواحلها.

عاد هذا المفهوم ليظهر واقعياً مرة أخرى في فبراير/شباط 2019، حين نفّذت القوات البحرية التركية مناورة عسكرية باسم "الوطن الأزرق"، قبل أن يُشير وزير الدفاع التركي خلوصي أقار إلى المفهوم ذاته مجدداً خلال احتفالات يوم النصر في 30 أغسطس/آب للعام نفسه، قبل أن يقوم مُمثِّل تركيا الدائم لدى الأمم المتحدة في 13 نوفمبر/تشرين الثاني 2019 بتقديم مطالبات تركيا بالمناطق الاقتصادية الخالصة لها في شرق المتوسط والمتوافقة مع مفهوم "الوطن الأزرق" في رسالة رسمية للمنظمة الأُممية.

وبحلول 27 من نوفمبر/تشرين الثاني من العام ذاته وقعت تركيا اتفاقية لترسيم الحدود البحرية مع حكومة الوفاق الوطني الليبية المُعترَف بها دولياً، في خطوة وصفها الرئيس التركي وقتها بقلب الطاولة على معاهدة سيفر.

إذ نشرت صحيفة لوموند الفرنسية تحقيقاً، جاء فيه أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ورئيس الحكومة الليبية فائز السراج، احتاجا إلى مكان فخم وتاريخي لتوقيع اتفاق تحالف بإمكانه تغيير اللعبة الاستراتيجية في شمال إفريقيا وحوض المتوسط.

وعنونت الصحيفة تحقيقها بـ"بعد مئة عام، أردوغان ينتقم من معاهدة سيفر"، لافتة إلى أن الحكومة الليبية وافقت على الاتفاق البحري الذي يخدم الأهداف التركية في المتوسط، في مقابل حصولها على المساعدة العسكرية واللوجيستية.

كما استدعت الصحيفة كلمات أردوغان في هذا الخصوص حينما قال: "بفضل هذه الصفقة العسكرية والطاقيّة، قلبنا وضعاً فرضته معاهدة سيفر"، وعلّقت على ذلك بالقول إن أردوغان اعتبر الاتفاق انتقاماً من المعاهدة.

شرق المتوسط.. الثروة ومعارك ترسيم الحدود

تقول هيئة المساحة الجيولوجية الأمريكية والشركات العاملة في التنقيب عن الغاز في شرق المتوسط، إن المنطقة تعوم على بحيرة من الغاز يقدر مخزونها بنحو 122 تريليون قدم مكعبة من الغاز الطبيعي، و1.7 مليار برميل من احتياطيات النفط.

أهم هذه الحقول المكتشفة حتى الآن هي حقل "ظهر" قبالة السواحل المصرية، ويقدر الاحتياطي فيه بنحو ثلاثين تريليون قدم مكعبة من الغاز، وحقل "لوثيان" الواقع قبالة حيفا، وتقدر احتياطياته بنحو 18 تريليون قدم مكعبة، وحقل "تامار" الذي يقع قبالة سواحل سوريا ولبنان وقبرص اليونانية وإسرائيل، ويضم احتياطياً تقديرياً من الغاز يصل إلى عشرة تريليونات قدم مكعبة، وحقل "أفروديت" الذي يقع في المياه الإقليمية القبرصية ويحوي احتياطياً من الغاز يبلغ ثمانية تريليونات قدم مكعبة.

ومن أجل استغلال هذه الثروة الهائلة بين الدول بطريقة متساوية، وهو ما تسعى له تركيا، تحاول أنقرة فتح قنوات مع كل الدول المحيطة من أجل ترسيم الحدود البحرية بينها، إلا أن بعض الدول التي تريد أن تستفيد من هذه الثروة تريد إبقاء الوضع وفرض واقع مشابه لسيفر وحرمان تركيا من حقوقها.

من جانبها، تستند الدول في ذلك إلى مفاهيم لقانون البحار الموقع سنة 1982والذي لا تعترف به تركيا، إذ بموجبه يحق للدول الساحلية الحصول على 200 ميل بحري من المساحات المقابلة لسواحلها لإقامة منطقة اقتصادية خالصة، وهي المنطقة التي يحق للدولة أن تمارس بشأنها حقوق الاستغلال والتنقيب عن الموارد البحرية.

تُعارض تركيا تأويل هذه القوانين وتقول إن الجزر لا يمكن أن يكون لها جرف قاري بموجب اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، ولا تتمتع إلا بمنطقة اقتصادية محدودة بعرض 12 كم فقط، وتحتجّ تركيا بأن منح الجزر سواحل قارية مساوية للدول (200 ميل بحري) يمكن أن يحوّل البحر المتوسط إلى بحيرة كبيرة تسيطر عليها اليونان، بحكم وجود عدد كبير من الجزر اليونانية المنتشرة في البحر.

تركيا وتحالف الشر

بدأ اهتمام تركيا بشرق المتوسط بشكل كبير مع بروز الأزمة القبرصية، وخاصة بعد الدعم العسكري للقبارصة الأتراك سنة 1974 ضد انقلاب عسكري مدعوم من اليونان في الجزيرة وقتها، وانتهى الأمر وقتها بتقسيم الجزيرة إلى جمهورية شمال قبرص التركية التي تعترف بها أنقرة وجمهورية إدارة جنوب قبرص المرتبطة باليونان.

منذ سنوات تدعو تركيا لحوار مشترك بين كل الأطراف للتوصل إلى حل عادل، لكن طالما قوبلت بمحاولة فرض الواقع من الدول المتشاطئة مع المتوسط، وهو ما تعتبره تعدياً على حقوقها.

ففي سنة 2010 رفضت أنقرة اتفاقيات ترسيم الحدود البحرية الموقعة بين قبرص وإسرائيل، وكذلك اتفاقية لترسيم الحدود البحرية بين مصر وقبرص عام 2013.

اتخذت العلاقات مع الدول التي صارت تشكل ما يشبه بتحالف وصفه الرئيس التركي بـ"تحالف الشر"، بعداً تصعيدياً خاصة بعد تأسيس ما يسمى بمنتدى غاز شرق المتوسط سنة 2019، الذي استثنى تركيا منه.

تجسد هذا التصعيد فيما يسمى بالاتفاق المصري-اليوناني قبل أيام حول ترسيم الحدود، في محاولة للتعدي على الحدود التي رسمتها ليبيا مع تركيا، إذ كانت أنقرة واضحة في ذلك بأن لا حدود بين القاهرة وأثينا، وأن لا حل في المنطقة دونها.

تواصل التصعيد التركي تجاه هذه الخطوة بإرسال سفينة "أوروتش رئيس" من ولاية أنطاليا محاطة بترسانة عسكرية إلى قبالة جزيرة قبرص لتستأنف أنشطة التنقيب والبحث، برفقة سفينتي "أتامان" و"جنكيز خان"، بعد قبولها بوساطة ألمانيا.

اللافت في الدول التي تعادي تركيا في شرق المتوسط، أن دولاً أخرى لا علاقة لها بشرق المتوسط تتداخل معها، وتتقاسم معها نفس الموقف، وهو ما اعتبره مركز "سيتا" للدراسات تعقيداً للأزمة من قبل الدخلاء.

أردوغان خلال احتفال رسمي نظّمته جامعة الدفاع الوطني في إسطنبول وخلفه خريطة كُتِب عليها اسم "الوطن الأزرق" (AA Archive)
توقيع معاهدة سيفر من قبل المنتصرين في الحرب العالمية الأولى (AFP Archive)
TRT عربي - وكالات
الأكثر تداولاً