تتخوف مصر من تأثير سلبي محتمل للسد الإثيوبي (Reuters)
تابعنا

شهدت الأشهر الأخيرة تحول سد النهضة ومفاوضاته من قضية سياسية تناقش ضمن غرف المفاوضات المغلقة إلى موضوع يستحوذ على اهتمام الرأي العام في الدول المعنية به.

ومع كل جولة تفاوض جديدة وفي "الاستراحات" بينها بات واضحاً حالات الحشد والحشد المضاد على الوسائل الإعلامية المختلفة، ولا سيما ضمن منصات التواصل الاجتماعي، التي تعج بمختلف أنواع السجالات بدءأً من النقاشات النخبوية المتعلقة بالتفاصيل الفنية إلى المهاترات الشعبية التي تتمترس وراء ذخيرة من الأفكار حول "حقوق مصر التاريخية" و"حقوق إثيوبيا التنموية".

سد النهضة "ترند" الشارع الإثيوبي

"ولِد مشروعاً قومياً" هكذا يوصف سد النهضة في إثيوبيا، فقد كان من بنات أفكار رئيس الوزراء الإثيوبي الراحل ميليس زيناوي الذي عمل على إيجاد مشروع وطني جامع للقوميات الإثيوبية ال83، وبالعديد من الإجراءات التي استهدفت إشراك المواطنين في تمويل إنشائه كاليانصيب واقتطاع جزء من رواتب موظفي الخدمة المدنية، تركز السد في بؤرة الوجدان الشعبي في البلاد.

وممّا زاد من تأثيره كونه ركيزة للتنمية المتوقعة مستقبلاً في إثيوبيا، حيث يتوقع أن ينتج طاقة كهربائية تبلغ 6 آلاف ميغاوات وهي كمية تفيض عن حاجة الاقتصاد الإثيوبي، ستستفيد منها أديس أبابا ببيع هذا النوع الطاقة إلى دول شرق إفريقيا المتعطشة إلى الكهرباء لإدارة مشاريع التنمية فيها، وهو ما سيوفر لإثيوبيا بجانب العائد الاقتصادي نفوذاً سياسياً في تلك المنطقة من العالم.

وهذا وغيره منح مشروع سد الألفية الإجماع الشعبي والسياسي الذي لا يكاد يوصف به أي شيء آخر في بلاد الحبشة، وهذا ما حوله وفقاً لمراقبين إلى موضوع سياسي بالغ الحساسية والخطورة، إذ بمقدار ما يمكن الاستثمار فيه لخلق اصطفاف خلف القيادة التي تدافع عنه، فإنه في المقابل يضيق خياراتها على طاولة التفاوض ولا سيما عند النظر إلى الانتخابات القادمة وحالة التنازع الحزبي والاستقطاب السياسي الحاد الذي تعيشه الساحة الإثيوبية.

ولذا فالاهتمام الشعبي الواسع بالسد في إثيوبيا لم يكن جديداً، لكنه تحول مؤخراً إلى "أجندة عامة" وفقاً لديجاني يماني ميسلي المحاضر في القانون الدولي بجامعة وللو بإثيوبيا، مضيفاً أن ثمة أسباباً عدة يُعزى إليها هذا التحول كالعامل الخارجي المتمثل في تدخل البنك الدولي والولايات المتحدة الأمريكية من خلال وساطتها ومفاوضات واشنطن، بجانب تسرب أخبار متكررة من وسائل الإعلام المصرية حتى في منتصف جلسات المفاوضات المذكورة.

ويرى ميسلي في إفادته لـTRT عربي أنه منذ "لحظة واشنطن" أولى عامة الإثيوبيين عناية خاصة للعملية التفاوضية والبيانات الصحفية المنشورة في نهاية كل جلسة، و"بدأ الباحثون في الاهتمام بالمفاوضات المشؤومة وحثوا الحكومة على الانسحاب منها".

 وبلغ الأمر ذروته وفقاً له مع بيانِ وزير الخزانة الأمريكية الذي يفرض على إثيوبيا عدم البدء في ملء السد قبل التوصل إلى اتفاق مع دول المصب، وتلاه رد فعل الحكومة الإثيوبية التي أكدت "حقها في مياه النيل وأنه لا توجد قوة تمنعها من استغلال مواردها في التنمية".

ويختم ميسلي أن تصعيد مصر برفع شكاية إلى مجلس الأمن الدولي زاد من سخونة الموضوع في أوساط الجمهور ووسائل الإعلام، وتحول في النهاية إلى "موضوع وجودي" وفق وصفه. 

النيل شريان مصر

في المقابل يرى الصحفي المصري محمود أبو بكر في إفادته لـTRT عربي أن قضية سد النهضة بالنسبة لمصر هي قضية أمن قومي، فهي تمس شريان الحياة الرئيسي لدى المصريين.

مضيفاً: أنها "بدأت في الاجتماعات، ولكن طول أمد التفاوض وعدم التوصل إلى اتفاق سريع وحاسم جعلها قضية شعبية، خاصة مع ضغط الإعلام المحلي المصري والعربي، فأصبحت حديث الناس في الشارع".

ويضيف المحلل السياسي المصري علاء فاروق أسباباً أخرى منها استغلال المعارضة المصرية في الخارج لملف المفاوضات ومجرياتها للنيل من النظام المصري، بجانب "استغلال إثيوبيا لعلاقاتها الدولية والإقليمية لتسريب كثير من المعلومات حول تعثر المفاوضات وأحياناً فشلها".

ووفقاً لحديث فاروق لـTRT عربي فإنه يندرج ضمن هذه الأسباب "محاولة أديس أبابا استفزاز النظام المصري والتلويح بحلول عسكرية، إضافة إلى فشل المفاوضات عملياً وخسارة الفريق التفاوضي المصري للكثير من أوراقه بعد تعنت "أديس أبابا" ومحاولتها الاحتفاظ بورقة المماطلات من أجل الانتهاء سريعاً من السد، وجعله أمراً واقعاً أمام العالم وليس مصر فقط".

وشهد ملف سد النهضة جولات عديدة من المفاوضات، بلغت نقطة حرجة مع رفض إثيوبيا التوقيع على مسودة اتفاق في واشنطن فبراير/شباط الماضي، موضحة أنها في حاجة إلى مزيد من الوقت لاستكمال مشاورات داخلية حول الملف، في حين وقعت القاهرة بالأحرف الأولى على المسودة في 28 من الشهر المذكور.

هذا الانسداد لاحت انفراجته مع استئناف التفاوض عبر تقنية فيديو كونفرانس بين وزراء الري مصر والسودان وإثيوبيا في 9 يونيو/حزيران الحالي، بحضور مراقبين من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وجنوب إفريقيا رئيسة الاتحاد الإفريقي، وسرعان ما ظهرت تباينات حادة حول تطور المحادثات في تصريحات أطرافها، وتم تكليف الخرطوم بإعداد مسودة وثيقة توافقية للمفاوضات التي تستمر مجرياتها ساعة كتابة هذا التقرير.

الضغط الشعبي يؤثر على المفاوضين

وتتفاوت تقديرات المراقبين لتأثير هذا الحضور الشعبي اللامرئي في غرفة المفاوضات على صانع القرار في الطرفين، إذ يرى أبو بكر أن حالة الحشد الموجودة حالياً بين المصريين والإثيوبيين هي حالة طبيعية لتعثر المفاوضات.

مضيفاً في إفادته لـTRT عربي أنها "تظل حبيسة مواقع التواصل الاجتماعي .. ويصعب أن تؤثر لحظياً على القرارات السياسية أو العسكرية، ولكنها ربما تكون دافعاً لقرارات سياسية وعسكرية أكثر حدة في المستقبل".

 في حين يرى علاء فاروق أن الضغط الشعبي سواء من المعارضة في الخارج والداخل أو حتى من مؤيدي النظام الحالي تسبب في ضغط كبير وحالة إرباك.

مستطرداً أن ذلك "كشف ضعف المفاوض المصري الذي يبدو أنه لم يكن يحمل أجندات عدة أو أوراقاً يظهرها حال تعثر تحقيق أهداف معلنة، فمن المعروف في علم التفاوض أنك يجب أن تمتلك عدة أجندات للطرح يتم تغييرها من الأصعب للمقبول للأسهل بحسب طبيعة جو المفاوضات وقوة حجة الطرف الآخر".

ويتابع فاروق أن هذا كان غائباً عن المفاوض المصري، ما جعل الضغوط الشعبية تؤثر في تحركاته لكونه يريد أن يظهر بقوة أمام حتى منتقديه.

ويرى فاروق أن السيولة السياسية والمرحلة الانتقالية وانتظار إجراء انتخابات قريباً في إثيوبيا جعلت المفاوض الإثيوبي يتشبث أكثر بقراراته، معتبراً الأمر ورقة سياسية وانتخابية رابحة جداً، ومستغلاً التعبئة الشعبية ليضغط بها أكثر على المفاوض المصري. 

في حين يرى ميسلي أن المشاركة الشعبية أثرت بشكل كبير وفي العديد من الأبعاد على المفاوضين الإثيوبيين، لجهة مراجعة مهاراتهم ومواقفهم التفاوضية السابقة.

مبيناً أن الحكومة الإثيوبية "أوضحت، على سبيل المثال، أنها لا تستطيع التوقيع على اتفاقية شاملة بشأن سد النهضة، وأنها ستوقع فقط إرشادات وقواعد للتعبئة الأولى والتشغيل السنوي له"، مؤكداً "أن الحكومة تقوم الآن بتحديث أدواتها التفاوضية في كل جولة وهو ما لم يكن يحدث من قبل " . 

وأعلن وزير الري والموارد المائية السوداني ياسر عباس، في مؤتمر صحفي بالخرطوم 16/6، أن خلافات برزت بين الدول الثلاث بخصوص إلزامية اتفاقية سد النهضة وكيفية تعديلها وآلية معالجة الخلافات بشأن تطبيقها، وأنهتم تكليف الفرق القانونية للدول الثلاث بمواصلة النقاش بشأن السد، على أن ترفع ما تتوصل إليه للاجتماع الوزاري الذي سيعقد في اليوم نفسه.

وبينما تتخوف مصر من تأثير سلبي محتمل للسد الإثيوبي على حصتها السنوية من مياه النهر الذي يشكل موردها المائي الأساسي، تقول أديس أبابا إنها لا تستهدف الإضرار بمصالح مصر، وإن الهدف الأساسي من بناء السد هو توليد الكهرباء.

TRT عربي
الأكثر تداولاً