الأشهر الأخيرة شهدت توتراً حدودياً بين السودان وإثيوبيا بلغ ذروة غير مسبوقة (Reuters)
تابعنا

شهدت الأشهر الأخيرة توتراً حدودياً بين السودان وإثيوبيا بلغ ذروة غير مسبوقة، وكان محوره منطقة الفشقة على الشريط الحدودي بين البلدين.

وإثر اشتباك بين الطرفين أعلن الجيش السوداني في 29 من الشهر الماضي على لسان المتحدث باسمه العميد عامر محمد الحسن أن "مليشيات إثيوبية مسنودة بجيش بلادها واصلت تعديها على الأراضي والموارد السودانية خلال اليومين الماضيين"، وهو ما أدى وفقاً للبيان إلى مقتل نقيب سوداني وإصابة 6 جنود، وفقدان آخر، إضافة إلى مقتل طفل وإصابة 3 مدنيين.

ولم يكن هذا الحادث الأول من نوعه في الأسابيع الأخيرة، حيث كان لافتاً أواخر مارس الماضي إعلان السلطات السودانية نشر المزيد من القوات العسكرية لتعزيز إغلاق المنطقة الممتدة على الشريط الحدودي مع إثيوبيا، تلاهزيارة رئيس مجلس السيادة السوداني، الفريق عبد الفتاح البرهان، مطلع أبريل، المنطقة العسكرية بمدينة القلابات، مؤكداً أن القوات المسلحة السودانية جاهزة لحماية الحدود، بصفته واجباً مقدساً.

مأزق الحدود

لطالما اتسمت العلاقات السودانية الإثيوبية بموجات من المد والجزر تحركها ملفات داخلية وخارجية متعلقة بالأنظمة الحاكمة في البلدين، وفي هذا الإطار يدخل المأزق المزمن حول الحدود ولا سيما منطقة الفشقة.

وتعود أولى الاتفاقات لترسيم الحدود إلى عام 1902 حيث وقعت بريطانيا المستعمرة لمصر والسودان مع إمبراطور الحبشة منيليك الثاني، حيث تم بموجبها ترسيم الحدود الشرقية للسودان مع إثيوبيا، وهو ما ترسخ بتوقيع اتفاقية 1972 بين السودان المستقل برئاسة جعفر النميري والإمبراطور الإثيوبي هيلاسلاسي.

وفي أعقاب محاولة اغتيال الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك 1993 في أديس أبابا والتي اتهم بها النظام السوداني، بسطت إثيوبيا سيطرتها على منطقة الفشقة، وتجدد الخلاف ثانية عام 2014 وبعد عامين تم الإعلان عن عملية لترسيم 725 كم من الحدود بواسطة لجنة فنية معنية تحت مظلة تعاون ثنائي مشترك من السودان وإثيوبيا كما اعترفت إثيوبيا بسودانية منطقة الفشقة.

وممّا زاد ملف الحدود تعقيداً ارتباطه بالصراعات بين البلدين، فقد أدى دعم الحكومة السودانية لفصائل الثورة الإرترية المحاربة لإثيوبيا أواخر ستينيات القرن الماضي إلى تبني أديس أبابا التمرد الجنوب السوداني على الخرطوم مما انعكس على وجودها في المناطق الحدودية، كما أن تطبيع العلاقة بين حكومة الإنقاذ وأديس أبابا 1998 أدى إلى غض نظر الحكومة السودانية عن الوجود الإثيوبي في الفشقة مقابل إيقاف أديس أبابا دعمها لجهات معارضة سودانية.

التصعيد الأخير بين تعقيدات الداخل والخارج

يربط مراقبون بين التطورات الأخيرة والتعقيدات السياسية التي يعيشها البلدان، حيث تعاني السلطات المركزية من ضعف السيطرة على المناطق الحدودية، فالعصابات الإثيوبية اعتادت طوال عقود على عبور الحدود بين البلدين، في حين تستمر الشكوى الإثيوبية من تهريب السلاح عبر الحدود السودانية.

كما أن الأوضاع الداخلية في البلدين غير المستقرة ألقت بظلالها على هذا الملف، حيث تشهد إثيوبيا حالة من النزاع بين قوى سياسية في الأقاليم وسلطة رئيس الوزراء آبي أحمد، كما تمثل في رفض الجبهة الحاكمة في إقليم تغراي قرار الحكومة المركزية تأجيل الانتخابات العامة وإصرارها على عقدها في موعدها المحدد سلفاً في أغسطس من هذا العام، وكذلك محاولة الانقلاب في إقليم أمهرا العام الماضي والذي أدى إلى مقتل حاكم الإقليم ومعاونيَن له.

ويندرج في هذه التعقيدات الصعود الملحوظ للتيارات القومية في إثيوبيا، ومنها تيار القوميين الأمهرة الذي يؤمن بوحدة أراضي الأمهرة تاريخياً ويعتبر أراضي الفشقة السودانية جزءاً منها، وهو تيار يشكل تحدياً للحكومة المركزية ورئيس وزرائها، ويحول دون الوصول إلى حل جذري فيما يتعلق بمسائل الحدود مع السودان.

فيما يرى البعض أن الصراع بين المكونَين المدني والعسكري للسلطة الانتقالية في الخرطوم كان من أسباب التصعيد السوداني الأخير غير المسبوق، ومحاولة إحراج الحكومة الحليفة لأديس أبابا باتهام المتحدث العسكري الرسمي السوداني للجيش الإثيوبي بدعم عصابات الشفتة في هجومها الأخير ،كما هدد لاحقاً بإمكانية شن حرب شاملة إذا لم تنجح المساعي الدبلوماسية لحل الأزمة الحدودية.

في حين كان رد الحكومة السودانية أكثر هدوءاً، حيث استدعت وزارة الخارجية القائم بالأعمال الإثيوبي للاحتجاج على "توغل مليشيات إثيوبية مسنودة من الجيش الإثيوبي واعتدائها على المواطنين والقوات المسلحة السودانية داخل الأراضي السودانية"، كما نقلت إدارة دول الجوار بالوزارة للدبلوماسي "إدانة ورفض الحكومة السودانية لهذا الاعتداء"، وطالبته "باتخاذ الاجراءات الكفيلة بوقف مثل هذه الاعتداءات".

كما يربط محللون بين تطورات ملف سد النهضة وعلاقات الرئيس المصري بكبار العسكريين السودانيين في المجلس السيادي من جهة وبين التوترات والتصعيد على الحدود، ولا سيما بعد الزيارة التي قام بها قائد قوات الداعم السريع للقاهرة في مارس الماضي ولقائه السيسي ثم مدير مخابراته عباس كامل، وزيارات الأخير إلى الخرطوم.

لماذا الفشقة؟

تقع الفشقة شرق السودان، ويحيطها نهرا عطبرة وسيتيت، كما تتمتع بهطولات مطرية كبيرة، وتتكون من ثلاث مناطق، وتتبع ولاية القضارف السودانية، وتزرع أراضيها ذات الخصوبة المرتفعة بمحاصيل ذات قيمة نقدية عالية، مثل السمسم والصمغ والحبوب الزيتية، وهو ممَّا يغري جيرانها على الطرف الإثيوبي من الحدود بالاستفادة منها.

ويجاور الفشقة من الطرف الإثيوبي أقاليم منها تغراي والأمهرة و رغم الاعتراف الرسمي الإثيوبي بسودانيتها يعتقد أبناء قومية الأمهرة أن هذه الأراضي تتبع لهم تاريخياً، وهو ما أدى إلى تسللهم إليها منذمنتصف القرن الماضي، حيث يبرز مع كل موسم خريف دور العصابات الإثيوبية المعروفة بالشفتا في الاستيلاء على الأراضي وطرد المزارعين السودانيين بالقوة، ما يؤدي إلى سقوط قتلى في صفوف الأخيرين بشكل متكرر.

ووفقاً لوكالة الأنباء السودانية فإن المساحة التي جرى استغلالها من قبل الاثيوبيين تصل إلى عمق يتراوح بين 15 و25 كيلومتراً على طول الفشقة الصغرى والكبرى، وبمساحة تتجاوز مليون فدان.

السودان وإثيوبيا.. إلى أين؟

رغم بيان الخارجية الإثيوبية الداعي إلى تشكيل لجنة تحقيق مشتركة وتعزيز الجو الودي بين البلدين، فإن التعقيدات المرتبطة بتشابك الملفات الداخلية والخارجية للبلدين الأخيرة ستلقي بظلالها على الخطوات المستقبلية، ولا سيما ما يتعلق بترسيم الحدود وتطورات ملف سد النهضة وموقف السودان منه.

ورغم الرفض الشعبي للتصعيد العسكري أو لتحول البلدين إلى ساحة تصفيات حسابات إقليمية، فإن تكرر اعتداءات عصابات الشفتة على الأراضي السودانية قد يؤدي إلى فتح الباب أمام سيناريوهات تتضمن مواجهة عسكرية أخطر بين الطرفين.

وفي إطار أوسع يرى البروفيسور جون يونغ الباحث المرموق في شؤون شرقي أفريقيا أن إثيوبيا والسودان يواجهان مجموعة من العوامل المؤثرة في تشكيل طبيعة العلاقة بينهما، كعدم وجود تاريخ من العمل المشترك بين سلطتي البلدين، وضعف سيطرتهما على الحدود، والشكوك حول الوحدة الداخلية لمكونات السلطة في كل منهم، بالإضافة إلى العوامل الخارجية المؤثرة كالصراع الخليجي وانعكاساته على شرق إفريقيا واستراتيجية الولايات المتحدة للحد من نفوذ الصين وروسيا في إفريقيا.

ووفقاً ليونغ فهذه العوامل بجانب الضعف السياسي والأزمات الاقتصادية الكبيرة والحاجة للمساعدات الخارجية التي ستكون مشروطة بمصالح المانحين، قد تؤدي إلى انتهاء ربيع من العلاقات الإثيوبية والسودانية امتد لعشرين عاماً، وقد تدخل البلدين في طور جديد تؤثر تداعياته على المنطقة عموماً.

TRT عربي - وكالات
الأكثر تداولاً