القرارات القضائية السعودية قوبلت برفض دول ومنظمات (AFP)
تابعنا

بعد عام كامل وأكثر قليلاً، قرَّرَت محكمة سعودية إصدار أحكام قضائية على من قالت إنهم متهمون بشكل مباشر في المشاركة بجريمة اغتيال الصحفي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده في مدينة إسطنبول التركية، وهي أحكام لطالما انتظرها العالم، ليفاجأ بأنّها برّأت الكبار الذين تشير أصابع الاتهام إليهم، وقضت بالإعدام على آخرين لم تُسمّهم.

وأعلنت النيابة العامة السعودية خلال مؤتمر صحفي الاثنين، أن محكمة سعودية حكمت بالإعدام بحق 5 متهمين في قضية مقتل خاشقجي، وسجن ثلاثة آخرين لمدة 24 عاماً، وأحكاماً أولية بحق 11 متهماً، دون تفاصيل أكثر.

وفي الوقت ذاته أعلنت النيابة أن المحكمة قررت تبرئة 3 مسؤولين بارزين ومقربين من وليّ العهد السعودي محمد بن سلمان، هم سعود القحطاني المستشار السابق لولي العهد محمد بن سلمان لعدم توجيه تهم إليه، وأحمد عسيري النائب السابق لرئيس الاستخبارات السعودية لعدم ثبوت تهم عليه، ومحمد العتيبي القنصل السعودي السابق بإسطنبول الذي أثبت وجوده في مكان آخر وقت مقتل خاشقجي، وفق المزاعم.

وتصدر هذه الأحكام دون أن يُكشف عن مكان جثة الضحيحة، وسط تضارب الروايات حولها، فيما تُحاسب الرياض أشخاصاً عاديين وتترك أصحاب القرار الأعلى الذين أصدروا الأوامر بقتل خاشقجي وشارك بعضهم فيها، وفق ما كشفته تركيا ووسائل إعلام أجنبية، ومن ضمنهم أحمد العسيري الذي اتهمته النيابة السعودية سابقاً بأنه وجّه الأوامر باستعادة خاشقجي بالإقناع أو بالقوة، وكذلك سعود القحطاني الذي اتهمته على الملأ بأنّه ساهم في "التنسيق مع نائب رئيس الاستخبارات العامة، وطلب الالتقاء بفريق اغتيال خاشقجي".

وتعتبر تركيا أن بقاء تفاصيل مهمة طي الكتمان مثل مصير جثمان خاشقجي، وتحديد المحرضين على قتله والمتعاونين المحليين إن وُجدوا، هو قصور أساسي في تجلّي العدالة ومبدأ المساءلة.

أسئلة عالقة.. أين الجثة؟

غابت في المحاكمة الأجوبة عن أسئلة مهمة في تحديد قتلة خاشقجي، وهي ذات الأسئلة التي طرحتها أنقرة منذ اللحظة الأولى للجريمة.

يقول رئيس منظمة قسط لحقوق الإنسان يحيى عسيري، في حديث لـTRT عربي، إن "السلطات السعودية لم تُجِبْ على أسئلة كثيرة أهمها مصير جثة المجني عليه، لذلك يجب أن يكون ضغط دولي حقيقي يبدأ من تركيا وينتهي بالأمم المتحدة حتى الكشف عن التفاصيل، فالسعودية ارتكبت الجريمة، لذلك لن تكشف عن تفاصيلها".

من جانبه يشير أستاذ العلاقات الدولية والعلوم السياسية سمير صالحة في حديث لـTRT عربي، إلى أن تركيا طالما حاولت الحصول على إجابة عن سؤال أين الجثة، ومَن المتعاونون المحليون، وما دور القنصل السعودي العتيبي في الجريمة، فهو الذي كان يتحرك على الأرض ويحاول أن يقول إن خاشقجي غادر مبنى القنصلية، وغيرها من الادعاءات.

ويتحدث صالحة عن ردود الفعل التركية والدولية قائلاً: "كلها تعبِّر عن رأي واحد، هو أن الأحكام غير كافية ولا تساهم في كشف تفاصيل الجريمة التي ارتُكبت في تركيا، ولا بد من تنسيق قضائي سعودي أوسع لكشف مزيد من التفاصيل".

ولعلّ هذا ما أشار إليه المتحدث باسم وزارة الخارجية التركية حامي أقصوي الذي قال إن "بقاء تفاصيل مهمة طيّ الكتمان مثل مصير جثمان المرحوم خاشقجي، وتحديد المحرضين على قتله والمتعاونين المحليين إن وُجدوا، هو قصور أساسي في تجلِّي العدالة ومبدأ المساءلة".

ولم تكشف السعودية حتى اللحظة عن مصير جثمان خاشقي، إذ سبق وأشارت في تصريحات رسمية إلى أن الجثة تَخلَّص منها متعاون محلي في تركيا، ولم تكشف حتى اللحظة هوية هذا المتعاون الذي طالبت تركيا رسميّاً بكشفه، فيما تشير تقارير أخرى إلى إمكانية إحراق الجثة في فرن بمنزل القنصل السعودي محمد العتيبي أو إذابتها.

ماذا بعد؟

يتساءل سمير صالحة: "ما الذي ستفعله أنقرة في الساعات المقبلة؟ هل ستتريث ليواصل القضاء السعودي التعامل مع الملفّ، أم ستتحرك باتجاه آخر؟"، ويستدرك: "أعتقد أن تركيا الآن ستفعِّل التعامل مع القضية على مستوى القضاء التركي".

ويضيف: "ما يهمّ تركيا هو التعامل مع الملف بشفافية وبقانونية، ولا أظن أن أنقرة ستتريث أكثر، فهي ستقطع الطريق أمام البعض للاستفادة من الملف بشكل أو بآخر"، مشيراً إلى أن السعودية تحاول تبرئة المسؤولين الحقيقيين عن الاغتيال على حساب أسماء أشخاص عاديين.

وعن قانونية إصدار أحكام على متهمين في قضية جنائية بذريعة أنها أحكام ابتدائية، يقول المحامي أرطغل أقار نائب رئيس مركز أبحاث العدالة التركي في حديث لـTRT عربي، إن "جميع الإجراءات غير قانونية وغير عادلة، فما الجرائم التي أُسنِدَت إلى هؤلاء؟ ومن هم؟ ولماذا خُفّفت أحكام بعضهم؟"، مؤكداً أنه وفق المتعارف عليه في المحاكم التركية والدولية "يجب أن تكون جميع الاتهامات واضحة".

أحكام مثيرة للسخرية.. العالم يرفض

سلوك السعودية على مدار تلك السنة الذي تراوح بين الإنكار والاعتراف والتفسيرات المتضاربة، هو خير دليل على مراوغتها، وهو الأمر الذي يرفضه العالم أجمع. وكان ردّ الأمم المتحدة على تَصرُّف الرياض الأخير هو تأكيد ضرورة إجراء تحقيق مستقلّ في جريمة قتل خاشقجي، فيما انتقدت المقررة الأممية أغنيس كالامار تبرئة مسؤولين سعوديين بارزين من الضلوع في الجريمة، ووصفت الأحكام الصادرة بأنها "مثيرة للسخرية".

حكم الإعدام بحق 5 مدانين بمقتل خاشقجي محاولة من السعودية لإبعاد قيادتها وعلى رأسها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، وكبار مستشاريه، عن الجريمة

رئيس لجنة الاستخبارات في مجلس النواب الأمريكي - آدم شيف

ونددت تركيا بتلك الأحكام، إذ قالت وزارة الخارجية التركية الاثنين، إن الأحكام التي أصدرها القضاء السعودي على المتهمين بمقتل خاشقجي، "أبعد ما تكون عن تحقيق العدالة"، مضيفة: "نكرر الدعوة للتعاون القضائي مع السلطات السعودية" في التحقيقات.

وقال بيان صدر عن المتحدث باسم الخارجية حامي أقصوي إن "كشف تفاصيل هذه الجريمة التي ارتُكِبت على أراضينا وتقديم مرتكبيها إلى العدالة ومعاقبتهم بما يستحقونه ليست مسألة حقوقية فقط، بل في الوقت نفسه مسؤولية أخلاقية يمليها علينا ضميرنا".

وصف رئيس دائرة الاتصال في الرئاسة التركية فخر الدين ألطون، قرار القضاء السعودي حول قضية مقتل الصحفي جمال خاشقجي بأنه "مجرد استهزاء بذكاء العالَم بأسره".

محاكمة محلية لتبرئة الكبار

ويُعَدّ عدم توجيه اتهامات إلى سعود القحطاني على خلفية مقتل خاشقجي والإفراج عنه، حسب تصريح النيابة العامة السعودية، خير دليل على محاولات الرياض تبرئة المسؤولين الكبار، بدليل الإفراج أيضاً عن أحمد عسيري نائب رئيس المخابرات السابق لعدم كفاية الأدلة في القضية، وعن القنصل السعودي السابق في إسطنبول وقت مقتل خاشقجي محمد العتيبي، وتبرئته.

ويرى رئيس منظمة قسط لحقوق الإنسان يحيى عسيري في حديث لـTRTعربي، أن "السلطات السعودية أثبتت بهذه الأحكام أنها غير جادة على الإطلاق بالمحاكمة وتحاول الهروب من المحاكمة العادلة والحقيقية، فعندما كان العالم يطالب بمحكمة دولية قالت إنها ليست بحاجة إلى ذلك لأنها مستعدة لتحقيق العدالة في الداخل، والآن هي تبرِّئ الأشخاص الذين قالت من قبل إنهم خططوا للجريمة وضللوا السلطات وأعطوا تقارير مغلوطة وإنهم قتلوا خاشقجي".

ويضيف: "محمد بن سلمان متورط مباشرة في الجريمة، لذلك طالبنا بمحاكمة دولية، وما زلنا نطالب السلطات التركية بكشف جميع الأوراق الموجودة لديها بما أن السلطات السعودية انتهت مما لديها حاليّاً، فتركيا وخمس دول أخرى كان لهم وفد في المحكمة، وفي أثناء الجلسة الثانية في المحاكمة قال أحد المتهمين المطلوب له حكم بالإعدام بوضوح: "إننا كنا ننفّذ أوامر عليا"، وبناء على ذلك، لماذا يخشى بن سلمان من محاكمة دولية إذا كان غير متورط في الجريمة؟ ولماذا يُبرَّأ الأشخاص الأقرب لابن سلمان؟".

وعن تبرئة القنصل السعودي الذي كان موجوداً خلال الجريمة، يقول عسيري إنه "تواطؤ من السلطات السعودية يدل على عدم استقلالها، فمحمد العتيبي كان في القنصلية وتقارير المحققة الأممية كالامار تُثبِت ذلك وفقاً للتسجيلات التي قدّمتها لها السلطات التركية، إذ قال العتيبي "خذوه بعيداً عني" في إشارة إلى الجثة، ثم تقول السلطات السعودية إنه أثبت وجوده في مكان آخر، هو تعامل سخيف مع القضية ومحاولة لتبرئة الجناة".

ويشير عسيري إلى أن "تصرف السعودية لن ينقذها بل يضعها في مأزق ويعيد قضية خاشقجي إلى الواجهة، ويعيد تذكير العالم بالجريمة التي تشير كل الدلائل إلى أنها مُخطَّطة من الألف إلى الياء، وإصرار بن سلمان على أن تكون المحكمة بالسعودية دليل أن لديه ما يخفيه".

وفي ظل الحديث عن عدم وجود نية مسبقة لارتكاب الجريمة، يقول عسيري إنه "لا يستطيع تشكيل فرقة الاغتيال إلا مسؤول كبير، فأنت لا تستطيع أن تغرِّد على تويتر في السعودية دون إذن رسمي من السلطات، فما بالك بجريمة مثل هذه! ثم إن السلطات السعودية كانت تقول إن الفرقة ذهبت إلى هناك بقصد التفاوض، ولكنها كانت مارقة فقتلت جمال خاشقجي، فلماذا ذهبت الفرقة الأخرى لطمس الأدلة وغسل السفارة وطلاء الجدران".

TRT عربي
الأكثر تداولاً