تصريحات ماكرون وتصرفاته خلال الزيارة القصيرة أثارت عدداً من ردود الفعل العربية والفرنسية الرافضة للغة التي استخدمها والأسلوب الذي تعامل به (AFP)
تابعنا

على الرغم من أنها لم تستمر سوى ساعات قليلة، كان لزيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى بيروت الخميس، تأثير كبير، سواء من حيث توقيتها أو لجهة تصرفات ماكرون خلالها والتصريحات التي أطلقها هناك.

في المقابل أطلقت الزيارة موجة انتقادات قوية طالت الرئيس الفرنسي، واصفة إياه بالاستعلاء والاستعراض، وتقديم نفسه كوصيّ على لبنان وطبقتها السياسية، في مشهد يستدعي الماضي الاستعماري.

زيارة وتصريحات بلغة غير معتادة

طالب ماكرون خلال الزيارة المسؤولين اللبنانيّين المتّهمين بالفساد والعجز، بـ"تغيير عميق" عبر "تحمّل مسؤوليّاتهم" و"إعادة تأسيس ميثاق جديد" مع الشعب لاستعادة ثقته، حسب ما نقلته وكالة الصحافة الفرنسية.

واستمع ماكرون إلى اللبنانيّين خلال جولة له في شارع متضرّر في العاصمة، داعياً إلى "تحقيق دولي" في الانفجار الذي دوّى في مرفأ بيروت، معلناً أيضاً عن مؤتمر دوليّ لتقديم المساعدة للمتضرّرين "في الأيام المقبلة".

وتفقّد ماكرون مكان الانفجار في مرفأ بيروت الذي تحوّل ركاماً، وشارع الجمّيزة القريب حيث شاهد مأساة لبنانيّين يحاولون تنظيف منازلهم وجمع ما أمكن إنقاذه، واحتشد هؤلاء حوله هاتفين: "الشعب يريد إسقاط النظام" و"ثورة ثورة" و"ساعدونا".

وقال ماكرون إنّه يؤيّد "إجراء تحقيق دولي مفتوح وشفّاف" في الانفجار "للحيلولة دون إخفاء الأمور أوّلاً، ومنعاً للتشكيك".

والتقى ماكرون كلّاً من رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس الحكومة حسان دياب ورئيس مجلس النواب نبيه بري في القصر الجمهوري في بعبدا قرب بيروت، ثم التقى ممثلين عن القوى السياسية، وبينها حزب الله، والمجتمع المدني خلال اجتماع موحّد عقد في قصر الصنوبر، مقر السفير الفرنسي في لبنان.

وعقد الرئيس الفرنسي مؤتمراً صحفياً قبل مغادرته أعلن فيه "تنظيم مؤتمر دعم دولي خلال الأيام المقبلة لبيروت والشعب اللبناني بهدف الحصول على تمويل دولي" من "الأوروبيين والأمريكيين وكل دول المنطقة وخارجها من أجل توفير الأدوية والرعاية والطعام ومستلزمات البناء".

وفي موقف يؤكّد انعدام ثقة المجتمع الدولي بالحكم اللبناني، أكّد ماكرون أنّ "مجمل هذه المساعدة الفرنسيّة أو الدوليّة سيُدار بطريقة شفّافة وواضحة لتصل مباشرةً إلى الناس والمنظَّمات غير الحكوميّة وإلى الطواقم الميدانيّة، فلا يكون في الإمكان تحويلها" إلى مكان آخر.

وقال الرئيس الفرنسي إنّ بلاده "لا يمكنها أن تحلّ محلّ اللبنانيّين"، لا على صعيد اتّخاذ القرارات على مستوى المسؤولين، ولا على صعيد التحرّك الشعبي في مواجهة المسؤولين، وأضاف: "أنتظر من السلطات اللبنانيّة إجابات واضحة حول تعهّداتها في ما يخصّ دولة القانون والشفافيّة والحرّية والديموقراطيّة والإصلاحات الضروريّة".

وتابع بأنّ المبادرة التي عرضها على القادة تقوم على "تحمل مسؤوليّاتهم خلال الأسابيع المقبلة وإطلاق الإصلاحات"، و"تشكيل حكومة وحدة وطنيّة خلال الأشهر المقبلة، واستنهاض البلاد".

ودعا ماكرون المسؤولين إلى العمل على "إعادة تأسيس ميثاق جديد مع الشعب اللبناني خلال الأسابيع المقبلة"، مضيفاً: "هذا التغيير العميق هو المطلوب"، وتابع: "يجب إعادة بناء الثقة والأمل، وهذا لا يُستعاد بين ليلة وضحاها، بل يُفترض بناء نظام سياسي جديد".

وأشار إلى أنه يعتزم العودة إلى لبنان مطلع سبتمبر/أيلول المقبل من أجل "إجراء تقييم معاً حول هذه النهضة الضرورية".

تضامن مغلّف بالوصاية

تصريحات ماكرون وتصرفاته خلال الزيارة القصيرة، أثارت عدداً من ردود الفعل العربية والفرنسية الرافضة للغة التي استخدمها والأسلوب الذي تعامل به.

في هذا الصدد كتب المؤرخ بشير نافع: "لم يمر على فرنسا منذ زمن، رئيس يعجز عن كبح جماح الإمبريالية مثل إيمانويل ماكرون. الرجل يعلن بلا خجل أنه بصدد وضع عقد جديد للحياة السياسية اللبنانية، ويتصرف خلال زيارته القصيرة لبيروت المنكوبة كأن لبنان لم يزل مستعمرة فرنسية".

من جهته قال السياسي الفرنسي جوردان بارديلا، إن "دعم فرنسا للشعب اللبناني في مأساته هذه أمر غير قابل للنقاش، إلا أن الاستعراض المسرحي المنفرد الذي نفّذه إيمانويل ماكرون اليوم في بيروت، مغرورٌ وفيه تفوقية أخلاقية وغير لائق".

بدوره استخدم السياسي الفرنسي والمرشح الرئاسي السابق جون لوك ميلونشون، لغة قوية، مستنكراً تصريحات ماكرون، قائلاً: "أحذّر من أي تشويش على الحياة السياسية في لبنان. سيكون هذا أمراً غير مقبول. لبنان ليس محميّة فرنسية. احذّر اللبنانيين من إصلاحات ماكرون، وأقول لهم احموا مطالب ثورتكم المدنيّة".

وأضاف ميلنشون في تغريدة لاحقة علّق فيها على لغة ماكرون: "من أين لماكرون بشعور القوة هذا؟ من أين له بهذه النبرة؟ بماذا يهدّد؟ إلى أي مغامرة يريد أن يجرّ فرنسا؟ ألم تكن مغامرة ساركوزي في ليبيا كافية؟".

رداً على هذه الانتقادات خرج ماكرون بعد عودته من الزيارة بتصريحات جديدة، أعرب فيها عن رفض اتهامه بالتدخل في الشؤون الداخلية للبنان، وأشار فيها إلى حرص بلاده على مصالح الشعب اللبناني، حسب شبكة BFMTV الفرنسية.

وأضاف: "الموضوع الرئيسي لاهتمامنا بلبنان هو الأخوة والمساعدة، فلو لم تلعب فرنسا التي تؤمن بالتعددية في لبنان، وبمصالح شعبها، فسيظهر الإيرانيون والسعوديون والأتراك وقوى أخرى بالمنطقة ممن يتدخلون في شؤون لبنان الداخلية".

وتابع قائلاً: "بعض هذه الدول يعمل ضد الشعب اللبناني من أجل مصالحها الاقتصادية والجيوسياسية"، ولفت إلى أن "لدى الشعب اللبناني حالة غضب عارمة"، مضيفًا: "أنا أحترم لبنان، تلك الدولة الحرة التي لها سيادة".

وأوضح أن الأسابيع الثلاثة المقبلة ستحدد مستقبل لبنان، لافتاً إلى أن الوقوف بجانب الشعب اللبناني مسؤولية فرنسا، وأنه لم يصدر أي تعليمات للمسؤولين اللبنانيين خلال زيارته الخميس للعاصمة بيروت.

على الرغم من ذلك، تبقى الطريقة التي حضر وتجوّل بها ماكرون في بيروت مدعاة للتساؤل والخوف عند كثيرين، خصوصاً أنها تعيد إلى الأذهان تاريخ الاستعمار في البلاد، ففي هذا الصدد كتبت صحيفة Le Temps السويسرية الناطقة بالفرنسية: "ماكرون خضر إلى بيروت كأنه مندوب الحماية الفرنسية، قدم كأنه منقذ لبلاد الأرز".

ونقلت الصحيفة عن المؤرخة ديما دوكليرك قولها إن لزيارة ماكرون رمزية سياسية واضحة بعيداً عن طابعها الإنساني، وإن زيارته تبدو كأنها زيارة "قائد قوة الحماية القديمة".

تفقّد ماكرون مكان الانفجار في مرفأ بيروت الذي تحوّل ركاماً، وشارع الجمّيزة القريب (AFP)
TRT عربي - وكالات
الأكثر تداولاً