تابعنا
إن الحوار مع المحتجين في السودان والجزائر والبحث عن حلول أو حتى أنصاف حلول لتدبير المرحلة الانتقالية، يُعَدّ من الخطوات المهمة التي تسير في اتجاه تعزيز الثقة. الثقة التي تعدّ الدعامة الثانية للحكم بعد العدل.

هل نكتفي بترديد مقولة "الاستثناء العربي"، ونغرق بالتالي في بِيدٍ من الارتياح المبالَغ فيه؟ هل نستمرّ في الانتظار والترقُّب، ونردد في كل مرة "لقد مرّت بسلام"؟ أم يجب علينا الاعتراف بأنها "وصلت إلى العظم"، وأن المواطن العربي ما عاد قادراً على الخضوع والهوان؟ أم علينا أن نعلنها صراحة بأن رصيد الثقة الممكن بين المواطن والدولة قد اسْتُهْلِكَ نهائيّاً، ولم تبقَ فيه أي ذرات؟

فالحراك العربي في طبعته الثانية، الأكثر قوة وشموخاً، لم ينتهِ بالمرة، وسقف المطالب آخذ في الارتفاع، كلما كان الصمت جواباً على تلك الآهات والزفرات المطالبة بالتغيير، وأساساً بِفَيْضِ كرامةٍ، يعيد مَفْهَمَةَ الوطن على أساس الحق قبل الواجب. وبالمقابل فإن استمرار مالكي وسائل الإكراه والتحكم، في تجديد السلطوية وإعادة "تنميق" الاستبداد، يدل على أن الدرس لم يُستوعب جيداً، وأن رسائل الجزائر والسودان وقبلها النسخة الأولى من الربيع العربي، قبل سنوات خلت، لم تصل بعد، ولم تُفَكَّك شفراتها على الوجه الأحسن. والنتيجة في مطلق الأحول أن الشعب لا يثق بالدولة ولا الدولة تثق بالشعب. إنها أزمة ثقة في البدء والختام، فما الذي أوصلنا إلى حالة كهذه، حيث التخوين أصل الأشياء، ومن كلا الطرفين؟

الحوار يظلّ هو النص الغائب في مشهدنا العربي ما يثمر هوة سحيقة بين الحاكم والمحكوم تفرز أزمة ثقة بنيوية تتكرس قويّاً بسبب ممكنات الاستبداد والتسلط.

عبد الرحيم العطري

لربما ما نفتقر إليه عربيّاً هو الحوار وفضيلة الاستماع، فلا صناع القرار ينزلون من أبراجهم العاجية لإصاخة السمع لأصوات المقهورين والمهيمَن عليهم، ولا هؤلاء من فاقدي أو معدومي الرساميل الرمزية والمادية يُسمح لهم بالتعبير والمطالبة باحتياجاتهم، فليس مطلوباً منهم إلا الهتاف بأسماء الزعماء والحكام، والحَمْدَلَة على ما هم فيه من أوضاع، ولو كانت بائسة حد القرب. فالحاكم العربي لا يريد صوتاً نشازاً يُفسِد عليه حفلاته التنكرية، ذلك أن الحوار وتدبير هذا الحوار بالشكل والمحتوى الفعال، يظلّ هو النص الغائب في مشهدنا العربي، ما يثمر هوة سحيقة بين الحاكم والمحكوم، تفرز أزمة ثقة بنيوية، تتكرس قويّاً بسبب ممكنات الاستبداد والتسلط.

ليس غريباً أن تنحت الذاكرة الشعبية في المغرب، وفي غيره من البلدان العربية تمثُّلاً سلبيّاً لصورة الدولة يتأسس على وجوب الحذر واللا ثقة، فالمغاربة يحذرون باستمرار من مغبة الثقة في ثلاثة عناصر على الأقل، وذلك بالقول: "ثلاثة ما فيهم أمان: الماء (ماء الأودية تحديداً) والعافية (النار لا الصحة بتعبير المشارقة) والمخزن (وهو الدولة العتيقة)"، فما يجمع هذا الثلاثي هو المفاجأة والإغارة والمحو والعنف، وهو ما يوجب الحذر وعدم الاطمئنان.

في ذات السياق تتردّد في حكايا القصور والبلاطات مقولة دالة للمولى سليمان (أحد السلاطين العلويين): نحن معشر الملوك، من كرهَنا قتلناه، ومن أحبَّنا عذبناه، ومن أكرمه الله، ما عرَفَنا ولا عرفناه"، وفي رواية أخرى، "والسعيد الذي لا يعرفنا ولا عرفناه". وهو ما يتواصل بصيغ أخرى في الآداب السلطانية التي تلحّ على وجوب التقية والحذر خلال مسارات القرب من الحاكم.

في المثل الشعبي، في النكت السياسية، في الاحتجاج المتواصل، في ضعف المشاركة السياسية، في التمثلات السلبية، والصور النمطية المتراكمة، نفهم أن لا ثقة بالحاكم العربي، وأن الشعب لا يوقّع شيكاً على بياض، وإن كان تحت نير الاستبداد. ففي كل هذه الديناميات يمكن أن نقرأ منسوب الثقة المتدني، ونعاين الخسارات التي نراكمها جراء سيادة أجواء اللا ثقة. فالدولة التي تبذل مجهوداً مضاعفاً ومكلّفاً (زمنياً ومادياً) من أجل الإقناع وصناعة الإجماع، مضطرة في كل حين إلى حشد آليات التأييد والدعاية لتمرير أبسط القرارات.

ثقة الدولة بالشعب تظهر أساساً في عدم الوصاية عليه وتمكينه من الحرية التامة لتقرير مصيره واختيار منتخَبيه وتشكيل حكوماته التي تنتصر له ولمصلحته الفضلى.

عبد الرحيم العطري

لقد صارت مؤشرات الثقة من أبرز أساسيات الحكم على وجود أو انتفاء الديموقراطية في المجتمعات الحديثة، فمتى كان الشعب يثق كليا بالعمليات الانتخابية التي تشرف عليها الدولة، ويثق بالخطابات والمشاريع والمبادرات الصادرة عنها؟ متى كان ذلك دليلاً على الانتماء إلى مصافِّ الدولة الديموقراطية؟ وهو ما لا يتحقق إلا بتدابير وتمارين ديموقراطية، تتأسس على احترام إرادة الشعوب في الاختيار وإشراكها في صياغة وصناعة القرار، لا اعتبارها قاصرة لا تصلح إلا للتصفيق والهتاف بحياة الزعيم، كما هو الحال في الزمن العربي المهدور.

إن ثقة الدولة بالشعب تظهر أساساً في عدم الوصاية عليه، وتمكينه من الحرية التامة لتقرير مصيره، واختيار منتخَبيه وتشكيل حكوماته التي تنتصر له ولمصلحته الفضلى، أما ثقة الشعب بالدولة فتنكشف في تناغمه مع قراراتها وقبوله باختياراتها وإيمانه المطلق بأنها تقتسم معه المعلومة وتبني معه الوطن. وذلكم ما لا نجده في الزمن العربي، إلا في حدود دنيا، حتى لا نُتّهَم بنشر التيئيس والإظلام.

عن طريق الحوار نؤسس لجيل من الإصلاحات، عن طريق الحوار نتجاوز منطق الخلاف، وننتقل بالتالي إلى سجل الاختلاف، فليس مطلوباً من الحوار أن ينتج نهاية مقاربات ملساء ومتطابقة، ولكن المطلوب منه والمؤمَّل فيه، هو أن ينتقل بنا إلى مستوى الإنصات للآخر والتعلُّم منه والثقة به، إنه درس الاختلاف الجميل.

لقد تَعوَّد صانع القرار في الوطن العربي أن لا يستمع إلا إلى صوته، وأن يعتبر الجواب الفضيل على مقولاته هو "ثقافة رجع الصدى"، لكن ألا يبدو واضحاً اليوم أن هذه الثقافة لم تقُدنا إلا إلى صناعة الأصنام، وإلى نوع من "الوثنية الفكرية" الجديدة، فَكُلٌّ فَرِحٌ بما يملك من قناعات، كأن شمس الحقيقة لا تبزغ إلا من دنياه، في حين أن الدرس القوي الذي نتعلمه من فضيلة الاستماع والحوار، هو أننا لا نصل إلى الحقيقة ولكن إلى أحواز الحقيقة، وأن الحقيقة الناجزة في هذا الزمن العصي على الفهم هي اللا يقين.

ثقة الشعب بالدولة فتنكشف في تناغمه مع قراراتها وقبوله باختياراتها وإيمانه المطلق بأنها تقتسم معه المعلومة وتبني معه الوطن.

عبد الرحيم العطري

إن الحكام العرب مدعوون اليوم، أكثر من أي وقت مضى، إلى الانخراط في جملة من تدابير الثقة، حتى لا يرتفع منسوب التوتر والاحتقان أكثر، وإلا فإن القادم لا يمكن لأيٍّ كان تخمينُه، إن الحوار مع المحتجين في السودان والجزائر والبحث عن حلول أو حتى أنصاف حلول لتدبير المرحلة الانتقالية، يُعَدّ من الخطوات المهمة التي تسير في اتجاه تعزيز الثقة. فهل يلتقط ذات الحاكم العربي هذه الإشارات؟ أم إن في أجهزة الاستشعار والاتصال لديه ولدى "وعاظ السلاطين" الدائرين في فلكه خللاً؟

لنتفق على أن النسق السلطوي الاستبدادي لا يقبل في اشتغاله، بأية منافسة جديدة حول مصادر الشرعية ولا حتى بأية مزاحمة أو مشاركة في تدبير أزماته واختناقاته، فهو المالك لكل الحلول السحرية، لهذا يفهم كثيراً كيف يلجأ مالكو وسائل الإكراه في ذات النسق، ومباشرة بعد كل احتمال لوجود منافس جديد، إلى خيار القمع أو الإقصاء والتهميش، أو عدم الاعتراف بوجود أزمة ثقة أصلاً، فالشعب مُحِبّ لهم ومتيَّم بهم، ولو خرج محتجّاً غاضباً.

إن آثار التدبير السلطوي لم تنسحب بعد، حتى من الدول التي نجحت في حراكها الاحتجاجي، فالردة الحقوقية تلوح من حين إلى آخَر، ومعالم الاستبداد ما زالت حاضرة في اشتغال خطاطات صانع القرار العربي، خصوصاً أن الدروس لم تُستلهم منها، فلا الأحزاب غيّرت من أدائها السياسي، ولا الفاعل الدولوي غيّر من أسلوب تدبيره للمشترك، بمعنى أن الدرس لم يصل بعد، وأننا سائرون من غير شكّ نحو إعادة إنتاج "استبداد" جديد مع فارق التسمية.

ختاماً نقول إن الثقة بين الدولة والمواطن، هي رصيد قابل للتعبئة أو الاستنفاد، تماماً كما بطائق الدفع المسبق الخاصة بإجراء المكالمات، وأنه يمكن إعادة شحنها في كل حين، متى توافرت الظروف والإرادة، وإذا كانت تُشحَن دريهمات وتُثمِر دقائق مكالمات في حالة الهاتف، فإنها في المتن السياسي، تُشحَن تدابير سياسية واقتصادية واجتماعية عنوانها الكرامة والحرية والعدالة، وتُترجَم نهايةً تواصلاً ومواطَنةً ومصلحة عُليَا، تعيد كتابة تاريخ الأوطان، وتؤسّس لفجر جديد من السلام والأمن والتقدم والازدهار.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً