تابعنا
لقد جرَّ قرار المجلس العسكري بتعليق التفاوض مع قوى الحرية والتغيير البلاد إلى المربع الأول من الأزمة؛ الأمر الذي يفتح المجال أمام كل السيناريوهات، ويدفع إلى التساؤل حول الأسباب الحقيقية لقرار المجلس هذا.

يُعتبر حُلم بناء دولة مدنية ديمقراطية إحدى أهم الدوافع التي حركت الشعب السوداني ضد نظام الإنقاذ الذي كان يتزعمه الرئيس المخلوع عمر البشير، والذي بدوره خطف مصير البلاد لمدة ثلاثة عقود. ولكن بناءً على المعطيات المتوفرة، من مشاكل داخلية وعوائق خارجية تواجهها الثورة السودانية، يبدو تحقيق هذه الحلم بعيد المنال بعض الشيء حتى الوقت الراهن على أقل تقدير، بناء على سياسات المجلس العسكري مؤخراً. على الرغم من الإيجابيات التي تحققت عقب سقوط البشير من رئاسة حكم السودان في 11 أبريل/نيسان 2019.

ومنذ سقوط البشير في الحادي عشر من أبريل/نيسان 2019، تشهد البلاد حالة من الاحتقان السياسي بين القوى المتصدرة للمشهد السياسي للبلاد، فضلاً عن غليان الشارع الذي تسبب فيه تعنّت المجلس العسكري الانتقالي في تسليم السلطة للمدنيين. ويمكننا أن نُرجع هذا الأمر إلى حالة الشك وعدم اليقين السائدة بين الأطراف المدنية منها والعسكرية التي أسهمت في عملية التغيير بالبلاد.

وفي البداية تمثلت الخلافات بين قوى إعلان الحرية والتغيير والمجلس العسكري الانتقالي بشكل أساسي في شكل المرحلة الانتقالية، ومدتها، وتسمية القوى المستحقة للمشاركة فيها، وعملية تصفية النظام السابق، ونسب التمثيل في مستويات الحكم المختلفة بين العسكريين والمدنيين.

وعلى الرغم من هذه الخلافات توصّل الطرفان مؤخراً إلى أرضية مشتركة، بناء عليها تم توقيع اتفاق مبدئي بشأن طبيعة المرحلة الانتقالية، وتشكيل المجلس السيادي، والتشريعي، في أجواء سادتها الإيجابية، ما دفع البعض إلى التفاؤل بأن البلاد دخلت مرحلة تجاوزت فيها عنق الزجاجة.

ولكن ما هي إلا سويعات قليلة حتى انتهى هذا التفاهم على إثر خروج رئيس المجلس العسكري الانتقالي الفريق أول عبد الفتاح البرهان ببيان رسمي أعلن فيه تعليق التفاوض مع قوى إعلان الحرية والتغيير، ليُعكر بذلك صفو المسار التفاوضي بين الطرفين.

ومن ضمن الحجج التي ساقها الفريق برهان في سياق إعلانه قرار تعليق التفاوض، تصرفات بعض المعتصمين الاستفزازية للقوات الأمنية -حسب زعمهِ؛ وأن المعتصمين وسَّعوا من دائرة الاعتصام بوضع المتاريس في الطرق الرئيسية للخرطوم، ما أدى إلى شلل شبة تام –حسب ادعائه- في الحركة المرورية بالولاية.

بل ذهب أكثر من ذلك، حيث ذكر بأن هناك بعض المندسين التابعيين للحركات المسلحة قاموا بإطلاق النار على منسوبي القوات النظامية، ما أفقد الثورة ميزتها السليمة. لكن المؤكد أن هذه الأسباب ما هي إلا ذرائع، وأن أسباباً أخرى تقف وراء اتخاذ البرهان قراراً بهذا الشكل. ويمكن حصر هذه الأسباب في النقاط التالية:

أولاً: الشك في إمكانية قوى إعلان الحرية والتغيير في ضبط المعتصمين. يشك قادة المجلس العسكري الانتقالي في أن قوى إعلان الحرية والتغيير ليس لها اليد العليا في ضبط حركة المعتصمين. وبذلك فالمجلس يسعى لاختبار إمكانيتها في إزالة بعض المتاريس التي أدت إلى إغلاق الطرق، والممرات الرئيسية. إزالة بعض المتاريس تعتبر إحدى بنود الاتفاق الذي تم التوصل إليه، وإذا ما نجحت قوة إعلان الحرية والتغيير بإقناع الشباب الثائر في إزالتها، فستتمكن حينها من اجتياز اختبار المجلس العسكري، وتصبح بذلك القوى الشرعية الوحيدة التي يحق لها تسلّم مقاليد أمور البلاد خلال الفترة الانتقالية والمحددة بثلاث سنوات.

ثانياً: حمل قوى إعلان الحرية والتغيير على الاعتراف بإسهام المؤسسة العسكرية في عملية التغيير. ترى بعض الكيانات المشكّلة لقوى إعلان الحرية والتغيير أن المجلس العسكري الانتقالي يعتبر من بقايا النظام البائد، وبالتالي فإن كل الخطوات التي يتبعها منذ أن تسلّم السلطة تأتي في إطار مساعيه لحماية أعضاء نظام، وهذا ما تسبب في التصعيد ضده، ما أدى إلى انزعاج قادة المجلس. ولذلك ربما أعلن الفريق البرهان قرار تعليق التفاوض من أجل أن يجبر قوى إعلان الحرية والتغيير على إيقاف الحملة المضادة التي تستهدفهُ من قِبل هذه الكيانات، وبالتحديد الحزب الشيوعي السوداني.

ثالثاً: انزعاج بعض القوى السياسية من الإنجاز الذي تحقّق. تلاحقت التنديدات من قِبل بعض القوى السياسية غير الموقِّعة على إعلان قوى الحرية والتغيير، بعد أن أعلن المجلس العسكري نتائج الاتفاق الذي تم بين ممثلي التفاوض.

على سبيل المثال لا الحصر، انتقد رئيس حزب دولة القانون والتنمية محمد على الجزولي هذا الاتفاق، بعد أن رأى فيه عللاً وإنقاصاً لدورهم في عملية خلع نظام البشير البائد. وعليه ربما تفطّن المجلس العسكري إلى أصوات هذه القوى، لذا علّق التفاوض مع قوى إعلان الحرية والتغيير بغية إقناع هذه التيارات بالانضمام، لأن هذه القوى بدأت تنادي بمظاهرات موازية من أجل الضغط على المجلس العسكري.

رابعاً: الضغوط الخارجية لإجهاض الثورة. تناقلت بعض التقارير الإخبارية دور بعض الدول العربية الداعمة لما يُعرف بالثورات المضادة في دول الربيع العربي، أي المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ومصر، لإجهاض الثورة الشعبية السودانية، وحرفها عن أهدافها الحقيقية، والتي تأتي في مقدمة أهدافها إقامة دولة مدنية ديمقراطية.

لقد سعت هذه الدول منذ ليلة خلع البشير، إلى مواكبة التغيير بالسودان، من خلال إعلانها الاعتراف بالمجلس العسكري، وتقديم وعود الدعم المادي والمالي له، بحيث تعطيه شرعية وتقوّي من موقفه حتى يتمكن من حكم البلاد طبقاً لما حصل في السيناريو المصري، وبذلك تقطع الطريق أمام الشعب وتحقيق المطالب التي خرج من أجلها. وبالتالي ربما دفعت ضغوط هذه الدول ووعودها المجلس العسكري إلى اتخاذ قرار تعليق التفاوض مع القوى السياسية.

أخيراً، لا شك أن قرار تعليق التفاوض بين المجلس العسكري وقوى إعلان الحرية والتغيير سوف يذهب حالة الفرح الحذر التي سادت ساحة الاعتصام في الأيام الفائتة، وفي حال أصر المجلس على موقفه ربما نشهد تفاقماً للأزمة التي تعيشها البلاد، ويرجع بالثورة إلى مربعها الأول.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي. 

TRT عربي
الأكثر تداولاً