تابعنا
بين الفينة والأخرى تطالعنا الأخبار عن شواهد تدلل بما لا يدع مجالاً للشك على أن دولة الإمارات والعديد من الدول السلطوية المشابهة باتت تتمتع بنهم منقطع النظير لجمع البيانات والتجسس الإلكتروني على الأفراد والجماعات والمؤسسات وحتى الحكومات.

فبعد أن طالعنا مؤخراً برنامج الإمارات الواسع للتجسس الذي عرف ببرنامج الغراب الأسود، نطالع اليوم حلقة جديدة تتمثل بتطبيق الاتصالات المجاني To Tok.

إن ما كشفت عنه مؤخراً صحيفة نيويورك تايمز حول استخدام حكومة الإمارات تطبيق الاتصال المجاني To Tok للتجسس على الأفراد يحيلنا إلى المعضلة الكبرى التي باتت تهدد كل واحد فينا عندما نصبح ضحاياً للحكومات أو لجهات شبه حكومية لكي تتجسس على بياناتنا الشخصية، الأمر الذي يعرّض خصوصيتنا للانتهاك الصريح.

إن التجسس ليس بالظاهرة الجديدة إنما الجديد هو حجم هذا التجسس الذي بات يشمل كل كبيرة وصغيرة من حياتنا اليومية. إن تطبيق To Tok وغيره من التطبيقات قادر أن يوفر للمتجسس الكثير من التفاصيل اليومية التي ربما تعد للكثير منا غير ذات أهمية ولكنها لأجهزة المخابرات تعتبر ذات قيمة عالية. وهذه البيانات تشمل على سبيل المثال رصد موقع تحركاتك، ومدة المكالمات التي تجريها، والجهات التي تتصل بها، والبرامج التي تشاهدها، والبيانات التي تبحث عنها، الأمر الذي يجعل أجهزة المخابرات قادرة على تشكيل أنماط معينة من خلالها يمكن التعرف عليك وعلى توجهاتك السياسية والفكرية، وبالتالي ستكون محل رصد ومراقبة إذا ما أثار نمطك الشبهات.

إن الشيء الجديد الذي يكشف عنه تحقيق صحيفة نيويورك تايمز حول تطبيق To Tok هو السياسية الجديدة، وربما المبتكرة التي تتعلق بتحول الحكومات بشكل مباشر إلى إنتاج البرمجيات لاستخدامها في التجسس.

فبعد أن كان الأسلوب التقليدي يعتمد على طرف ثالث من أجل تجهيز برنامج معين للتجسس على شبكات أو تطبيقات أخرى، كما حدث سابقاً عندما جرت الاستعانة ببرنامج بيغاسوس الذي تصنعه شركة إسرائيلية للتجسس على محادثات برنامج واتس آب، نرى حكومة الإمارات تقوم بنفسها من خلال شركات محسوبة عليها مثل شركة BlackMatter وPax AI بإنتاج تطبيق مجاني والترويج له بشكل كبير يوفر لها دخولاً مباشراً إلى بيانات المستخدمين في تخلٍّ واضح عن أي وسيط ثالث.

لا يمكن التحقق على وجه الدقة من المكان الذي تخزن فيه هذه البيانات؟ ومن يملك الحق القانوني في الوصول إليها؟ وهنا يكمن السؤال الجوهري. في ظل حكومات استبدادية لا تتمتع بسلطة القانون ويوصف سجلها الحقوقي بانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، لا يمكن الوثوق من الادعاءات حول الحفاظ على الخصوصية والتخزين الآمن للبيانات.

في بلد لا يتمتع بسلطة القانون، سيكون الوصول إلى البيانات وانتهاك الخصوصية رهن قرار حتى من أدنى الرتب في الأجهزة الأمنية، وهذا أمر يثير الفزع. إن دولة مثل الإمارات تعودت على التضييق على حرية التعبير لدرجة الزج بالناشطين إلى السجن لمجرد تغريدات نشروها على تويتر لا يمكن الوثوق أبداً بكل ادعاءاتها تجاه حماية خصوصية المواطنين والحفاظ على بياناتهم.

كل الحكومات بغض النظر عن كونها ديمقراطية أو استبدادية تمارس فعل التجسس. كلنا يذكر العميل السابق في وكالة الأمن القومي إدوارد سنودين والقنبلة الإعلامية التي فجّرها حول برنامج الحكومة الأمريكية الواسع في التجسس. لقد بلغ اتساع هذا البرنامج أن شمل بعض قادة الدول المقربة من الولايات المتحدة مثل المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل. غير أن الفرق يكمن في أن التجسس في الدول الديمقراطية منضبط بحكم القانون. بمعنى أن أي حالة تجسس لا بد أن يكون مصرحاً لها بحكم قضائي. غير ذلك فإن الضحية لها الحق أن ترفع قضية على جهة التجسس ومقاضاتها.

ليس هذا وحسب. في الدول الديمقراطية تتمتع المؤسسات بقيم عالية من الشفافية والمحاسبة. وبذلك فإن التعدي على الخصوصيات يعتبر انتهاكاً لا يمكن القبول به لأن ذلك من شأنه أن يهدد المصداقية التي تقوم عليها الفلسفة الليبرالية.

على سبيل المثال، في أواخر عام 2015 وقع حادث إطلاق نار في ولاية كاليفورنيا راح ضحيته العشرات من القتلى. وُثقت الحادثة على أنها عمل إرهابي. وكان من بين الدلائل التي جمعها مكتب التحقيقات الفيديرالي FBI جهاز iPhone لأحد منفذي الهجوم. على إثر ذلك طالب المكتب شركة Apple المصنِّعة للجهاز بتزويده بشيفرة الدخول إلى الجهاز من أجل جمع البيانات لإكمال التحقيقات.

رفضت شركة Apple هذا الالتماس من مكتب FBI وأصرت على ذلك على الرغم من وصول القضية إلى المحكمة. وفق Apple كان أمن وحماية الخصوصية مقدماً على أي اعتبار آخر. نعم، ربما يجادل المرء بأن هدف Apple من إصرارها هذا لا يخلو من دوافع اقتصادية تتعلق بحماية سمعتها، ولكننا لا يمكن أن نسقط الهدف الأبعد الذي يتعلق بالحفاظ على مبدأ الخصوصية كأحد الحقوق الأساسية للإنسان.

إن هذا النموذج لا يمكن أن يتكرر في دولة استبدادية على غرار دولة الإمارات والصين على سبيل المثال. هذه الدول لا تتمتع إطلاقاً بالشفافية والمحاسبة وتغيب عنها كلياً فكرة حقوق الإنسان. ولذلك فإن الزج بالإنترنت وتطبيقاته الاتصالية في معركة التجسس والمراقبة أمر لا يهدد أفراداً معينين فقط بل يهدد الإنترنت كشبكة قامت على مبدأ الوصول الحر والآمن للمعلومة. وهو مبدأ يعتبر حقاً لكل إنسان. فتطبيق To Tok على سبيل المثال ليس حكراً على المواطنين الإماراتيين لكي تدّعي الإمارات أنها تمارس السيادة على خصوصيات مواطنيها بل هو تطبيق عالمي قام بتحميله أكثر من 10 ملايين شخص حول العالم.

إننا أمام تغوُّل خطير على خصوصياتنا الفردية، وإذا لم ينتصر النموذج الليبرالي في هذه المعركة فإن الإنترنت سيكون ساحة مستباحة تماماً من الحكومات الاستبدادية.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِّر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي