تابعنا
تمجيد الغرب لوحدات حماية الشعب "الإرهابية" في شمالي سوريا ينمّ عن جهل، ويعد إهانة لجميع الأكراد. وما هذا إلا مجرد جانب واحد من رواية أكبر تعجّ بالنفاق وجهل التاريخ.

ولولا أنَّ تأثير ذلك يطال أرواح أشخاص حقيقيين وأمنهم وسلامتهم، لكانت المبالغة التي يعامل بها الغرب تركيا، حليفته في حلف شمال الأطلسي "الناتو"، مدعاة كبيرة للسخرية.

إذ وجَّه الساسة والصحفيون والمحللون والخبراء، بصفة عامة، انتقادات حادة للعملية التركية في شمالي سوريا للقضاء على ما أسمته أنقرة "ممر السلام" الذي يمتد لعمق 30 كيلومتراً، وعلى اتساع 400 كيلومتر.

وأكد الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، في حديث مع نظيره التركي رجب طيب أردوغان، أنَّ بلاده لن تعرقل خطط أنقرة لتأمين حدودها مع سوريا.

وهذه الصيحات الجماعية حول "الأكراد"، هذا الكيان المُوَحَّد الذي ابتدعه خيال الغرب، تدعو للخجل. وهذا لا يرجع إلى أنها تستند إلى أكاذيب فحسب، بل لأنَّ الغرب يعبر عن افتتانه المفاجئ بـ"الاستقرار وعدم خيانة الحلفاء" بجدية بالغة تدفعك لتظن أنه لم يتسبب بالأساس في زعزعة استقرار الشرق الأوسط، ولم يخُن قط أياً ممن يسميهم "حلفاءه".

خيانة أوباما هي ما تسببت بهذا الوضع

أولاً، جمع صُنّاع السياسة والخبراء في الغرب الأكراد كافة تحت شعار وحدات حماية الشعب -الذراع السوري لحزب العمال الكردستاني الإرهابي- يعد إهانة للشعب الكردي.

إذ يُقدَّر عدد الأكراد بالملايين، ومن ثم فإنَّ تصنيفهم جميعاً بأنهم يساريون متشددون ليست لديهم أية اعتراضات على تجنيد الأطفال وارتكاب جرائم حرب عنصرية وكذلك سيل من انتهاكات حقوق الإنسان يقع ضمن هوس الغرب ونظراته الاختزالية المعهودة.

إضافة إلى ذلك، فإنَّ تَشدُّق المحللين الغربيين بالكلام عن الإدارة الذاتية لشمال سوريا وشرقها، وهي ليست كياناً حقيقياً على الإطلاق، وتصويرها كأنها منطقة متاخمة يسكنها الأكراد فقط، هو تغيير للحقائق على أرض الواقع والتستر على إشاعة وحدات الشعب الكردية الرعب في شمالي سوريا بين السكان العرب والتركمان.

إذ انخرطت الجماعة اليسارية المتطرفة بنشاط في تدمير القرى العربية والتركمانية، وتشريد السكان، ورفض عودتهم على الرغم من أنَّ تهديد تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" لم يعد قائماً ليشكل ذريعة لجرائم الحرب التي يرتكبوها.

وبالطبع لم يكُن أيٌّ من هذا ليحدث دون مساعدة السياسة الكارثية التي تبناها الخطيب المُفوَّه الأعلى باراك أوباما بشأن سوريا. لذا، بدلاً من اتهام ترمب بـ"خيانة" أصدقاء واشنطن الماركسيين، ربما يود صُنّاع السياسة والمؤثرون في الغرب التنازل قليلاً وتذكر أنَّ أوباما خان ملايين السوريين -عرباً وأكراداً وتركمان- حين لم يفرض الخط الأحمر الذي كان أعلنه في مواجهة استخدام الديكتاتور السوري بشار الأسد أسلحةً كيميائية.

ولو كان لدى هؤلاء بقية من الضمير، لظلت المشاهد المؤلمة للمدنيين السوريين بينما يلفظون أنفاسهم الأخيرة تطارد أحلامهم.

وتخلى أوباما أيضاً ببساطة شديدة عن الجيش السوري الحر وجماعات أخرى مناصرة للديمقراطية. والعذر الذي تداولته واشنطن وقتها، والذي يعاد ترديده في ضوء إعلان ترمب الأخير هو أنَّ الجيش السوري الحر المدعوم من تركيا يعُج بالجماعات الجهادية، ولهذا انحازت إدارة أوباما لصف وحدات حماية الشعب الإرهابية لتكون هي قواتها على الأرض ضد التهديد الداعشي.

وتعد هذه كذبة غادرة تنبع من مشاعر الإسلاموفوبيا ومعاداة العرب المنتشرة في الغرب. ونبذت واشنطن أيضاً تركيا، أحد الفاعلين من الدول التي تمتلك ثاني أكبر جيش في "الناتو"، لصالح وحدات حماية الشعب، التي سمّت نفسها لاحقاً قوات سوريا الديمقراطية (قسد).

وظل الغرب بلا كلل يُمجِّد "قسد" ووجود نساء يقاتلن في صفوفه، الأمر الذي أظهره وكأنه "غربي بما يكفي" ليكون جديراً بالدعم والاهتمام، على عكس الآخرين جميعهم المقربين من "الإرهابيين" والذين لا يهم إذا أزهق الأسد أرواحهم أم لا.

والمحصلة الإجمالية لذلك هو أنَّ أوباما بصق في وجه حليفه التركي، وضخ أموالاً وأسلحة لوحدات حماية الشعب التي تربطه بحزب العمال الكردستاني صلات واضحة لا ينكرها إلا كاذب وقح، وأجبر كذلك أنقرة على عزل أولوياتها السياسية عن واشنطن والتركيز على سياسات أمنها القومي المُلحّة.

لذا تعد إعادة تقييم تركيا لأولوياتها السياسية منطقية تماماً، بعد أنَّ تسببت التحركات الأمريكية في تصدع العلاقات بين الحليفين عضوي الناتو، ما دفع تركيا للتقرب من روسيا.

تحميل ترمب أغلاط أوباما حماقة

لهذا السبب، من المشين أن يخرج أشخاص مثل السيناتور الأمريكي ليندزي غراهام ويهاجم تركيا ويهدد بفرض عقوبات اقتصادية إذا استعملت أنقرة حقها في الدفاع عن حدودها، وهو الذي سبق أن وصف تسليح وحدات حماية الشعب بأنه "فكرة غبية"، وأقرَّ علناً بأنها تمثل تهديداً على تركيا.

ومن المثير رؤية المحافظين الأمريكيين يدافعون فجأة عن الأيديولوجيات الماركسية، لكنه يوضح أيضاً كيف تُلقَى الأيديولوجيات خارج الحسابات حين يتعلق الأمر بالواقعية السياسية.

ومن دون أية مقدمات، أصبحت وحدات حماية الشعب هي "الأكراد"، في تجاهل تام للفصائل الكردية المتحالفة مع تركيا والجيش السوري الحر، وكذلك المدنيين العاديين المحايدين.

كل ما يفعله ترمب هو الرجوع عملياً عن قرار استراتيجي كارثي، والتزحزح عن طريق حليف مؤثر يحاول صيانة أولويات أمنه القومي من خلال التدخل العسكري، أو على الأقل هذا ما يبدو عليه قرار ترمب إلى الآن.

فبالنسبة لتركيا، من المستحيل السماح بوجود منطقة تحكمها وحدات حماية الشعب الإرهابية على حدودها مباشرةً، حيث ستساعد بلا شك حزب العمال الكردستاني، الذي بدوره سيشن مزيداً من الهجمات الإرهابية ضد الشعب التركي.

والحقيقة أنَّ وحدات حماية الشعب لم تكن قط حليفاً للولايات المتحدة، بل مجرد أداة. والآن مع القضاء على الجانب الأكبر من تهديد "داعش"، أو على الأقل تراجعه إلى حد كبير، بات من مصلحة واشنطن العودة إلى التقرب من حليفتها الفعلية، أي تركيا، وهي فاعل دولي بإمكانه المساهمة في تحقيق المصالح الأمريكية في أنحاء العالم، مثلما حدث سابقاً، وتمتلك اقتصاداً يمكن أن ترتبط معه الولايات المتحدة بعلاقات استثمارية.

بالنسبة للولايات المتحدة، وحدات حماية الشعب كانت مجرد بيادق على الأرض، لا أكثر ولا أقل، ولم يكن ينبغي الاعتماد عليهم من الأساس.

وربما سيجد صُنّاع السياسة والصحفيون والمراكز البحثية وغيرهم، ممن يراودهم القلق حول مصداقية الولايات المتحدة بعد التخلي عن منظمة إرهابية، أنه من الأجدى تمضية أوقاتهم يقلقون بشأن مصداقية الولايات المتحدة التي تواصل التخلي عن تركيا، حليفتها المقربة منذ الحرب الباردة.

هذا الموضوع مترجم عن موقع TRT World

TRT عربي