صورة تُظهِر مباني أحد الأحياء في مدينة القاهرة ويغلب عليه التكدس والإهمال. (AP)
تابعنا

تتسم المراحل الانتقالية وذروة تأزُّم الأنظمة الاقتصادية والسياسية بالارتباك والعجز عن تفسير المتناقضات وظواهر الأشياء، ممّا ينمّ عن حالة من الإفلاس الفكري الذي يجنح إلى الاختزال والتعسف والانغلاق داخل حدود الطبقة والجنس والتحزبات السياسية الكرتونية، وفي خضمه يُعاد تدوير الخطابات القديمة، التي أقل ما توصف بها أنها "مخلَّفات استعمار" و"افتراضات علم بدائية".

فإذ بنا اليوم، على سبيل المثال، أمام اجتماعيين واقتصاديين وأطباء نفسيين يعيدون إنتاج خطاب الثلاثينيات من القرن العشرين، الذي يردّ كل أسباب التخلف الذي يقبع فيه العالم الثالث من فقر وجوع ومرض وانهيار قيمي، إلى إرتفاع معدلات الزيادة السكانية مقابل محدودية الموارد والغذاء. إنه ثوب الدرواينية الاجتماعية الرَّثّ الذي ينتعش من جديد بكل سذاجه لمواجهة فشل دولة ما بعد الاستعمار في حل سؤال مُنجَز التنمية.

خطابات مُفلِسة

وقد بات هذا الخطاب في غاية الإفلاس، وذلك بإصراره على معالجة إشكالية النمو السكاني باعتباره متغيراً مستقلّاً، وسبباً لا معطى متولّد عن/ ومتكيف مع سياقه الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، الذي يتحكم فيه على المستوى الداخلي أنظمة سياسية متخلفة وهجينة، وسياسات معولمة مستغله لهذا التخلف.

وينكشف إفلاسه، من حيث إعادة تدويره نفس الحجج والمقاربات البيولوجية التي أُجريت بهدف تَعرُّف آليات وتبعات تكاثر بعض الأنواع من القوارض والطيور والأسماك، والحشرات كالجراد والذباب، حين تتزاحم في حيزات مكانية ضيقة وتتصارع على فرص البقاء حية، ومنها نظرية هودسون هوجلاند "سبرنتيكا التحكم السكاني" وغيرها، مما تعرض له الاقتصادي رمزي زكي في كتابه "المشكلة السكانية".

وعلى الرغم من خضوع تلك النظريات للتفكيك والنقد وبيان مدى سذاجة ما توصلت إليه من مقاربات، فإنّ البعض لا يزال يستعين بها اليوم باعتبارها اكتشافاً علميّاً جديداً ينذر بعواقب الانفجار السكاني، بل وفي لغة مالتوسية عتيقة (نسبة إلى روبرت مالتوس)، يُعاد إنتاج مقولاته عن حتمية وقوع "الأوبئة والحروب والمجاعات" كردّ إيجابي من الطبيعة ضدّ هذا الانفجار الذي يُخِلّ بقوانين توازنها، ما لم يُكبح طواعية بالإجراءات الوقائية مثل تحديد النسل وتأخير سنّ الزواج وخفض معدلات الخصوبة، إلخ.

إنّ "البشر كالجراد، حين تتضاعف أعدادهم وازدحامهم يتحولون إلى غوغاء، وفي الزحام الغوغائي، وحسب تعبير محمد المخزنجي الأديب والطبيب النفسي " يتلبس كل فرد الإحساس بأنّ الآخرين منافسون له وخصوم، فيسلك كما لو كان في سباق معهم أو صراع، تتزايد الانفجارات العدوانية لأوهى الأسباب ويتصاعد التعصُّب والعنف ويشيع التحرُّش كمظهر من مظاهر القنص، وفيما كل فرد منشغل بما ينجح في انتزاعه من هول الزحام، تنحطّ اللياقة والذوق العامّ وتغدو الضوضاء والزعيق والقذارة والغش والكذب من مألوف الأمور، فيسود الغوغاء وتتفشى الغوغائية... إلا ما ندر".

ولا نعلم، كيف يُدان ويُحاسَب البشر بمعايير العقلانية، وهم كالجراد مدفوعون بالغرائز بلا أدنى قدر من وعي أو إرادة، ومن ثمّ، لا تنافي نوعية هذا الخطاب أبسط مبادئ المنطق وحسب، بل تكرّس للعنف والطبقية والعنصرية والجهل، وبصرف النظر عن قصدية ما يرمي إليه، فهو يصبّ في صالح السلطة السياسية والطبقة المهيمنة التي تعتاش وتسير على أنقاض التخلُّف، مما يساهم في تضخيم المشكلة من حيث الاتفاق على اعتبارها مشكلة تتطلب حلولاً وإمكانات.

تنمية فاشلة ومدن متكدسة

تتمثل كارثية هذا الخطاب أيضاً في أنه يتعامى عن مساءلة المنجز التنموي، ويبحث بكثافة في كيفية تفاعلات الزحام وازدرائه وتحميله كل نقيصة، دونما سؤال عن علّة وجوده واستمراريته، دونما إشارة واحدة صريحة عن كيفية استخلاص الفائض الاقتصادي، وعملية احتكاره وعسكرته، وما يترتب عليه من التفاوتات الصارخة في توزيع الربح والموارد والامتيازات، ومدى تحقق العدالة الاجتماعية، ومعدلات التضخم.

كما لا يعنيه تقسيمات التركيب العمري للسكان، إذ تتفشي البطالة الكلية والجزئية بين صفوف الشباب المؤهلين للعمل، عدا مركزية الإدارة وبيروقيراطية الدولة المترهلة، ومدى التغيرات السيكولوجية التي تطرأ على الفرد حين يشتغل أكثر من عمل لا علاقة له بمؤهلاته العلمية بعدما أنفق في سبيلها عديداً من سنوات العمر والمال، مما يستنزف مزيداً من طاقته وحياته دون حقوق ولا ضمانات، ولا فسحة من الوقت والراحة كي يُشبِع انفعالاته الطبيعية، أو يفكّر كيف تدور به تروس رأس المال وتستغله.

في دولة مثل مصر، وحسب بيان إحصاء السكان الأخير يوليو 2019، بلغت نسبة سكان الحضر 42.7% بينما بلغت نسبة سكان الريف 57.3%. وفي ما يخصّ نسبة سكان الحضر، فهي قابلة كل مدى للزيادة حدّ الانفجار، إذ تحت وطأة الانهيار المستمرّ لبِنَى الإنتاج الريفي دون وجود بدائل، عدا سوء القطاع الخدمي إن لم يكن انعدامه سيما في الجنوب، يجعل من المدن والمراكز الحضرية دائماً مناطق جذب بحثاً عن العمل أو الخدمة، في ظل بنى تحتية مهترئة أيضاً، ومتمددة بمزيد من الأحزمة السكنية العشوائية على الأطراف كنوع من المقاومة السلبية والبحث عن سبل العيش بأسوأ حدوده داخل ثقافة هجينة تخلط بين حداثة معولمة وعادات بالية.

وفي سياق هذا المحيط الاجتماعي (العشوائيات الفقيرة وأغلب الجنوب)، لا يزال يُنظر إلى الأطفال والأسرة كوحدة إنتاج مجمعة، الطفل يُولَد كي يعمل ويساهم في دخل الأسرة، وعلى الرغم من صعوبة الإجراءات الإحصائية في تلك المسألة، فإن التقديرات تشير إلى نحو 1.6 مليون طفل عامل تتراوح سنّهم من 12 إلى 17 عاماً، سيما وأن الفئة العمرية الأقلّ من 15 عاماً تشكل ثلث السكان بنسبة 34.2%.

أغلب هؤلاء الأطفال لا يندرجون في سلك التعليم النظامي، وعلى أفضل حال يتوقفون عند إحدى المرحلتين الإعدادية والابتدائية، وفقاً لطبيعة قطاعات العمل الهامشية أو البدنية الشاقة التي لا تشترط سوى معرفة المبادئ الخاصة بالعمل ذاته، وبهذا الحال فالأطفال يشكّلون ثروة ومصدر دخل للأسرة يتعيّن حسب العدد.

هذا النمط المعيشي وما يرتبط به من تقسيمات عمل النوع الاجتماعي"Gender" يفرض قيمه وسلوكياته المتناغمة معه، إذ على سبيل المثال يصبح الزواج المبكّر مطلباً إن لم يكن ضرورة، لضمان إعادة إنتاج العائلة الكبيرة، إذ ما الداعي إلى تأخير الزواج ما دام الطفل اشتدّ عوده وأصبح مصدراً للدخل والإعالة؟ فلا هو منتظم في تعليم ولا هو ينتظر وظيفة تسوّغ التأخير، وهكذا الإناث، ومن ثمّ ترتفع معدلات الخصوبة وتُعاد الكَرَّة ما لم تتغير شروط هذا الواقع المعيش.

سيادة دولة منقوصة

وهناك في صعيد مصر مليونا امرأة يمتنعن عن تعاطي وسائل منع الحمل التي تقدّمها الدولة ضمن حملات تنظيم الأسرة، لماذا؟ لأسباب منها ما يتعلق بعدم توافر المعلومات الطبية الكافية حول تلك الوسائل، إلا أنّ خلف هذه المقاومة ما هو أخطر وأشمل، إذ تعكس تلك المسألة انعدام الثقة بل والصلة بين الدولة ومؤسساتها، ومواطنيها، والمفاهيم الثلاثة "الدولة والمؤسسات والمواطنة" هي مفتاح تلك الأزمة العميقة والمتضخمة.

إذ إنّ مركزية الدولة التي تستمدّ منها القوة، على الوجه الآخر تسلبها ولاء السكان المحرومين من مؤسساتها وخدماتها على نحو فعَّال وعادل، مما يُلجِئهم إلى الاعتزاز بنظام القبيلة وتوارث عاداتها وتقسيمات العمل الاجتماعي بها، كذا إلزام التمسُّك بقيم الوحدة العضوية بين أفرادها، ومن ثمّ عدم الاعتراف بسيادة الدولة ورفض جميع ما تمثّله من توجهات ومعايير وسلوك.

وتتوالى الإحصاءات والصرخات التي تحمِّل القيم والعادات والدين خطيئة النمو المفرط للسكان، دون فهم وإدراك أنها تأتي في المقام الأخير من جملة أسباب قد بينّا بعضها، كي تكون غطاءً مُشرعِناً لا سبباً رئيسيّاً على عكس ما يُخيَّل إلى البعض.

وبناءً عليه، لن تُجدِي الخطابات الاختزالية في حلّ مشكلة النموّ السكاني، بل كل ما تفعله أنها تُراكِم وتؤجّل المواجهة، وتساهم في امتصاص وتوجيه غضب الطبقة الوسطى ضدّ النظام السياسي وحلفائه، إزاء ما تتعرض له من تقويض لمكتسباتها، فيما تتأجج مشاعر العداء ضد الطبقة الدنيا والفئات غير المنتفعة من الدولة، بعدما تَبيَّن في ثورات 2011 أن ثمة فرصة لإيجاد قواسم مشتركة قد تجمعهم ضد أشكال الاستغلال السياسية والاقتصادية والدينية التي ترسخ أسباب التخلف، ما من شأنه تمرير تملُّص الدولة من مسؤوليات الرفاه الاجتماعي التنموية، والانسحاب من سياسات الدعم الشعبوية التي فقدت فاعليتها.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِّر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي