تابعنا
تصاعدت حمّلات المراقبة والتعقب على منصات التواصل الاجتماعي الخاصة بالمواطنين على إثر زيادة التوتر بين الولايات المتحدة وإيران، هذا ما كشفت عنه حالات التوقيف للمسافرين على الحدود الأمريكية الكندية مؤخراً.

على أثر العملية الأمريكية التي أدّت إلى اغتيال أحد أهم الجنرالات الإيرانيين الجمعة الثالث من كانون أول/يناير بالقرب من مطار بغداد، ذهب خبراء الأمن السيبراني إلى الحديث بأن إيران سوف تلجأ إلى الهجمات السيبرانية كواحد من أساليب الردّ على هذه العملية. فاغتيال رجل بحجم وقيمة قاسم سليماني قائد فيلق القدس المسؤول عن عمليات إيران في المنطقة العربية يحتاج إلى ردود مزلزلة وفق المسؤولين الإيرانيين.

غير أن الرد الإيراني المباشر عبر رشقات من الصواريخ على قاعدتين عسكريتين للولايات المتحدة في العراق دون وقوع أضرار بالقوات الأمريكية المتمركزة هناك جاء باهتاً. وكذلك جاء باهتاً الرد الإيراني عبر الفضاء السيبراني. هذا ما كشفت عنه شركتان عاملتان بهذا الحقل مؤخَّراً هما شركة Magnallium وشركة Dragos. وأشارت الشركتان إلى أن إيران حاولت التسلل إلى بعض شبكات تزويد الطاقة في الولايات المتحدة من أجل العمل على إحداث انقطاع في الطاقة عن أجزاء حيوية في البلاد، غير أن محاولاتها لم تكلل بالنجاح.

هذا الردّ الباهت سواء عبر الهجمات الصاروخية أو الهجمات السيبرانية لا ينبغي أن يصرفنا عن ردود أخرى تعيد إلى الأذهان واحدة من أهم المسائل الخلافية التي ما زالت تحوز على نقاشات ساخنة بين المعنيين في عصرنا الحالي، وهي الخصوصية وحرية التعبير، في مقابل انتشار حدّة المراقبة والتعقب خصوصاً من قبل الجهات الحكومية على حسابات المواطنين في السوشيال ميديا.

فبعد أيام قليلة من اغتيال سليماني، ذكرت تقارير إخبارية أن أمن الجمارك وحماية الحدود الأمريكية قد احتجزت أكثر من 60 إيرانياً من ضمنهم حملة للجنسية الأمريكية على الحدود بين الولايات المتحدة وكندا. والمستغرب لم يكُن فقط احتجازهم لمدة تزيد على عشر ساعات أو أن من بين المحتجزين أطفالاً قُصَّراً، بل المستغرب أن رجال الأمن قاموا بمصادرة بعض هواتفهم المحمولة، وأمرتهم بالكشف عن كلمات المرور الخاصة بهم على منصات التواصل الاجتماعي، والقيام باستجوابهم بشأن آرائهم السياسية ونشاطهم على هذه الوسائل.

ما يقلق في الأمر أن هذه الحوادث لا تعبِّر عن حالات فردية أو اجتهادات شخصية من رجال الأمن والمسؤولين، بل أصبحت تتكرر بشكل كبير جدّاً في مختلف الدول لا في الولايات المتحد وحسب. وهذا يعني أن هناك نمطاً أصبح يُعمَّم يتعلق بتحويل منصات التواصل الاجتماعي لخزان استخباراتي لجمع المعلومات عن المواطنين ومن ثم إدانتهم بها.

تأخذ هذه الظاهرة أو هذا النمط شكلاً مُقلِقاً أكثر في الدول العربية التي لا يتمتّع فيها المواطنون بحماية القانون. ولذلك رأينا عدداً كبيراً من الناشطين والمعارضين يعتقلون ويقتلون بناء على آرائهم التي ينشرونها في منصات التواصل الاجتماعي. على الأقلّ في الولايات المتحدة قانون يحمي حرية التعبير. ويستطيع المواطن الارتكان إليه في الحدّ من تغوُّل السلطات التنفيذية أو حتى محاسبتها قضائيّاً. ولكن يبقى الأمر مقلقاً من زاوية أخرى.

هذه الزاوية تتعلق بمدى انتشار هذه الظاهرة حتى أصبحت تعمّ الدول الديمقراطية وغير الديمقراطية على حد سواء. فالولايات المتحدة وهي حصن الديمقراطية في العالَم باتت تلجأ أكثر وأكثر إلى عمليات التجسس ومراقبة حسابات المواطنين في وسائل التواصل الاجتماعي فضلاً عن الناشطين من أجل الحد من حرية التعبير لديهم من خلال فرضها إكراهاً ما يسمى "الرقابة الذاتية".

في هذا السياق نستذكر مثلا ما وقع مع طالب فلسطيني تم قبوله في جامعة هارفارد الأمريكية. عندما وصل إسماعيل حجاوي إلى الولايات المتحدة قادماً من لبنان، منعت سلطات المطار دخوله البلاد. وبعد أن صادرت هاتفه وجهاز اللابتوب الخاص به، وطلبت الدخول إلى حساباته على منصات التواصل الاجتماعي تم إلغاء تأشيرته وأُعيدَ إلى مكان إقامته في لبنان. وعندما سأل عن سبب هذه الإجراءات كانت المفاجأة حين كشفت له مندوبة الأمن في المطار أن سبب ذلك بعض التغريدات التي تخصّ أصدقاء له على منصات التواصل الاجتماعي لا تتماشى مع سياسة الولايات المتحدة.

أن يُوقَّف شخص في المطار، ويُستجوب، ويُحرم من دخول البلد بسبب تغريدات لا تخصه هو بل تخص أصدقاء له على وسائل التواصل الاجتماعي، إنما يؤشر إلى مدى خطورة هذه الظاهرة. إن واقعة الطالب حجاوي تقول لنا إن أي واحد منا سواء أكان ناشطاً سياسيّاً أم كان مواطناً عاديّاً لا يلتف للشؤون العامة، مهدَّد بالاعتقال والاحتجاز وربما الطرد بسبب صداقته التي قد تكون صداقة افتراضية لأشخاص لهم نشاط أو حتى مجرد رأي سياسي.

تحاول الحكومات من خلال اتباع هذه الرقابة المفرطة على حساباتنا في منصات التواصل الاجتماعي والتعقب الدقيق لها إلى التقليل من مشاركة المواطنين في النشاطات السياسية والعامة. وإذا كان هذا الأمر في الدول السلطوية مفهوماً نظراً إلى القهر السياسي الذي تفرضه هذه الدول على مواطنيها، فإن هذا الأمر يبدو غير مفهوم أبداً في الدول الديمقراطية التي تعتبر حرية التعبير واحداً من المقدسات التي لا يجب المساس بها.

يشير بعض التقارير إلى أن هذا النوع من المراقبة والتعقُّب ينمو بمعدلات مذهلة. ما بين عامي 2015 و2018 على سبيل المثال زاد عدد عمليات البحث دون أمر قضائي للأجهزة الإلكترونية التي تكون بحوزة المسافرين بنسبة 292 في المئة، مع أن عمليات الدخول إلى الولايات المتحدة ارتفعت بنسبة 3 في المئة فقط في نفس الفترة.

لا يبدو أن هذه المعركة ستُحسَم لصالح المواطنين في المدى المنظور على أقل تقدير، بل ستزيد سوءاً، خصوصاً في ظل انتشار التقنيات التي يمكن استخدامها بسهولة في عمليات التعقب. هذا ويُذكر أن إسرائيل من بين كل الدول ربما الأكثر جدارة في تطوير هذه التقنيات.

فسلطات الحدود الأمريكية على سبيل المثال اشترت برامج التعقب والمراقبة من شركة إسرائيلية تُدعى Cellebrite، وذلك لتخطِّي التشفير وكلمات المرور من أجل استخدام البيانات بطريقة أسرع. هذا وما زلنا لم ننسَ برنامج بيغاسوس الذي أنتجته أيضاً شركة إسرائيلية واستُخدم في اختراق محادثات الناشطين على تطبيق الرسائل النصية المباشرة واتساب وتسبب في اعتقال وقتل عديد من الناشطين، كان أبرزهم جمال خاشقجي عام 2018.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِّر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً