تابعنا
تعمل إيران على تصعيد مدروس رداً على مساعي الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة كالسعودية وإسرائيل لضرب نفوذها الإقليمي.

بعد إبرامه مع السعودية ما أصبح يُعرف بصفقة القرن خلال زيارته الرسمية الأولى خارج الولايات المتحدة، دشّن الرئيس دونالد ترمب سياسة "الضغوط القصوى" تجاه إيران التي شملت سلّة من القرارات العقابية أهمها الانسحاب من الاتفاق النووي المبرم خلال الأنفاس الأخيرة من ولاية سلفه باراك أوباما.

ثمّ أتبعه حصار تدريجي للصادرات الإيرانية من النفط والغاز والحجز على ودائعها في البنوك الخارجية، لتنتقل الضغوط بعد ذلك في منحى تصاعدي حتى شملت الاستثمارات الأجنبية. وقد تضرّر بذلك خصوم أمريكا مثل الصين التي انحنت للعاصفة وأوقفت وارداتها الطاقية من طهران، ولم يسلم حتى الحلفاء وبخاصة فرنسا بوصفها أكبر مستثمر أجنبي في حقول الغاز الإيرانية، وكانت تسيطر على أزيد من 30% من سوق السيارات المحلية.

من الناحية الاقتصادية بدأت الضغوط الأمريكية تؤتي أكلها، فقد هوت العملة الإيرانية إلى 120 ألف ريال مقابل الدولار الواحد بعدما كانت تُصرف بحوالي 40 ألف، أي أنها فقدت ثلثي قيمتها خلال أقل من عام من بدءِ العقوبات، وقد أدى ذلك إلى ارتفاع التضخم وزيادة الأسعار، ما تسبب في خسائر اقتصادية فادحة.

ولو كانت المعادلة في هذه الحرب تتوقف على المتغير الاقتصادي وحده لأمكن الحديث عن نجاح واشنطن في تركيع بطيء لنظام آيات الله في طهران، ولكن الأمر أعقد من ذلك. وقد فهمت طهران أن الوقت ليس في صالحها، فاقتصادها كان يعتمد بشكل كبير على صادرات النفط والغاز، كما أن فاتورة الحرب ضد الثورة السورية وانخراطها في دعم المليشيات الشيعية في العراق واليمن ولبنان أضحت تُشكل عبئاً ثقيلاً على موازنتها العامة. لأجل ذلك لجأت إلى تكتيك المِرآة العاكسة في تعاملها مع سياسة "الضغوط القصوى" التي تنهجها واشنطن.

وهكذا حركت طهران أحجارها في الرقعة اليمنية، وبدأت في جس النبض الدولي والسعودي من خلال ضربات محدودة، شنها في البداية الحوثيون على منطقة عسير ونجران الحدوديتين. بعد ذلك طالت الهجمات أهدافاً حيوية مثل مطارات أبها وجازان ونجران، ثم ناقلتَي نفط تابعتين لشركة أرامكو السعودية أثناء عبورهما مضيق باب المندب في يوليو/تموز 2018.

وقد رافقت تلك العمليات حملات إعلامية إيرانية شاركت فيها حتى بعض الدول الغربية التي ركزت على حق اليمن في "الدفاع عن النفس" ومواجهة التحالف السعودي الإماراتي. وتَجاهل الأوربيون لأغراض لا يتسع المجال لبسطها، أن الحوثيين مجموعة مسلحة انقلبت على النظام الشرعي وسيطرت على اليمن بالقوة وبالتالي فهي لا تملك شرعية الدولة المزعومة.

وأمام ردود الفعل الباهتة على تلك الاستفزازات، انتقلت طهران إلى "الضغوط القصوى" على السعودية والولايات المتحدة بضربة واحدة تشبه نقلة "شاه مات" في الشطرنج. فوجهت ذراعها الحوثي في اليمن لشن غارات على أكبر حقل نفطي في العالم ليلة السبت 14 سبتمبر/أيلول 2019، واستطاعت أن تشل نصف إنتاج النفط السعودي لترتفع أسعار الذهب الأسود بحوالي 19% دفعة واحدة. وأصيبت بورصات العالم مباشرة بالحمّى التي قد تتحول خلال الأيام القادمة إلى إغماءات بسبب توقف شريان الحياة عن ضخ النفط في محركات الطاقة العالمية.

اختيار إيران لهذا التوقيت بالذات، للانتقام من الحصار الأمريكي وإحداث صعقة لسوق الطاقة العالمية، قد يكون خاضعاً لحسابات جيوسياسية استغلت فيها إيران الفراغات الاستراتيجية سواء في أوروبا بسبب "البريكست"، أو الخلاف بين واشنطن وحلفائها الغربيين حول الخروج من الاتفاق النووي، أو تبعات الحرب التجارية مع الصين، أو عودة الحرب الباردة مع موسكو في أكثر من نقطة ساخنة، أو حتى انقسام دول الخليج فيما بينها والصراعات داخل البيت السعودي نفسه. كما قد يكون مرتبطاً بحسابات الانتخابات الأمريكية إذ تزامن الهجوم مع آخر سنة في ولاية ترمب، ما يحدّ من خياراته في شنّ حرب دولية عالية المخاطر ليس على الولايات المتحدة وحدها بل على إمدادات الطاقة العالمية.

ولكن نجاح المجازفة الإيرانية مُتوقف على ردود الفعل السعودية والأمريكية التي قد تخرج عن كل التوقعات السياسية الكلاسيكية. فالرئيس الأمريكي مُتقلب المزاج ولا يمكن التنبؤ بقراراته، والسعودية تعيش تحولات عميقة مع محمد بن سلمان، وهي لا تملك خياراً آخر غير التصعيد. فأي تراجع أمام طهران أو انسحاب من اليمن قد يَنجم عنه نقل المعركة إلى داخل أراضيها بتحريك أزيد من مليونَيْ شيعي.

كما أنّ الولايات المتحدة قد تدفع الرياض إلى مواجهة مع طهران دون أن تتورط واشنطن بشكل مباشر. وهكذا يتم الاحتواء المزدوج لِزعيمَتيْ الأُصوليتيْن الشيعية والوهابية، والقضاء على البرنامج النووي الإيراني، وقطع طريق الحرير الصيني، وإجهاض التسلل الروسي إلى الخليج.

وأخيراً ضمان السيطرة المطلقة للعم سام و"اليد الخفية" على الخليج ومصادر الطاقة العالمية إلى أجل غير مسمى.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِّر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً