تابعنا
في الحراك الجزائري تتشابك السخرية مع النشاط الاحتجاجي لتنتج فعلاً سياسياً يعبّر عن مواطَنة ما بعد الأحزاب والسياسة التقليدية.

كانت الجمعة الحادية والثلاثون، العاصمة الجزائرية محاصرة بالكامل، حدودها الشرقية مغلقة بحواجز أمنية، المواصلات العامّة متوقفة، جموع الشرطة تفتّش المارّة بحثاً عن موجودين من خارج العاصمة، لاعتقالهم. لا بدّ من تنفيذ أوامر الجنرال! عزل العاصمة عن فضائها الوطني تمهيداً لاحتواء الحراك، أو هكذا يزعمون! يخرج العاصميون، مئات الآلاف منهم، هاتفين بالشعار الجديد، الشعار الوحيد الذي أثبت فاعليته أمام مؤسسة "هشّة المعنويات": "نحّينا الشريطة، ما زال بوعلّيطة" (عزلنا صاحب الكرسي المتحرك بوتفليقة)، بقي لنا أن نعزل صاحب الكرش الكبيرة (القايد صالح)".

لا تُعَدّ مهمّة البحث عن السخرية في حراك الجزائر مهمّة بالغة الصعوبة، فحتّى مع غياب نماذج احترافية للسخرية، مثل العروض الكوميدية (Stand-up comedy)، فإنّ الصور التي يقدّمها الحراك، كل جمعة وثلاثاء، وما يُنشَر على مواقع التواصل بقية أيّام الأسبوع، يبشّران بحراك يجد في السخرية لغته المفضّلة.

فالسخرية في الحراك الجزائري لا تمثل مجردتنفيس جمالي عن غضب الشارع، بل هي فعل سياسي يتلاءم مع الحراك، مع اللحظة الراهنة، مع الأهداف والأفكار التي يحاول هذا الحراك أن يحقّقها وينجزها على الأرض، فالسخرية هي تعبير عن المواطنة، إنها نوع من المشاركة السياسية في زمن تتضاءل فيه الصورة التقليدية للفعل السياسي. لذلك لا يمكن وضع السخرية في هامش الصورة كأنها نوع من التسلية، بل هي فعل سياسي احتجاجي غرضة بثّ القوة في الحراك وإرباك الخصم.

والسخرية كوسيلة لممارسة السياسة تقليد متّبع في الجزائر، في الأوساط الشعبية على الأقل، منذ الاستقلال، منذ تبنّت الدولة خيار الرأي الواحد، والحزب الواحد، والرئيس مدى الحياة. منذ تلك اللحظة، والأطفال يتندّرون في ألعابهم ونكاتهم ببومدين، والشاذلي، وبوتفليقة. وحدهم قادة المخابرات والجيش كان الحديث عن أسمائهم محرَّماً... حتى أَهَلَّ الحراك.

تبرز قيمة الحراك من أنّه أتاح للسخرية تجاوُز حدودها، فأصبح بالإمكان، السخرية من كلّ شيء، ومن كلّ أحد. كل يوم تملأ مواقع التواصل مئات التغريدات، التي تتعرض بالسخرية للسياسيين، والعسكريين، ورجال الدين، وأذرع النظام الأمنية والاقتصادية، بل وحتّى فئات من الحراك نفسه.

لم يعُد أحد يعلو فوق السخرية، الأمر الذي يعني أنّه لم يعُد أحد فوق النقد. السخرية السياسية التي ينخرط فيها الجزائريون بشكل جماعي في الحراك تدلّ على أنّ السياسة أصبحت تمارَس في الجزائر على أصولها.

في السابق كانت السياسة تعني الرئيس والأحزاب وشيئاً من العسكر والاقتصاد. الآن، رفعت الحجب عن الوشائج بين السياسة والحياة، أصبح إمام المسجد موضوعاً سياسياً، والقنوات الإعلامية موضوعاً سياسياً، وأي نشاط تقوم به وزارة الثقافة أو وزارة التعليم أصبح موضوعاً سياسياً. إذا كانت الدولة قد تغلغلت في كلّ شيء، فممارسة السياسة وفق مبادئ الحراك لا بدّ أن تطال كلّ شيء. السخرية من كلّ شيء ومن كلّ أحد. 

صحيح أنّ الجزائريين كانوا منذ سنوات ينتقدون وسائل الإعلام، باعتبار تغطيتها لما يحدث في الجزائر يتسم دوماً بالازدواجية، غير أنّ هذا النقد كان يُرى باعتباره الاستثناء لا المبدأ العامّ. مع الحراك، لا يمرّ يوم دون أن تخرج آلاف التعاليق الساخرة على أداء القنوات الإعلامية. في الصورة ميم لطفل وهو يحاول ارتقاء دَرَج بشكل غير منتظم. على الدرج كُتب (22 فيفري في الجزائر/حراك الجزائر/أشهر من حراك الجزائر/حراك مصر)، في حين وُضع على ظهر الطفل عبارة "الإعلام الجزائري". تعكس هذه الصورة كيف يتعامل الإعلام الجزائري بازدواجية، حيث يقوم بتغطية الأحداث في مصر، بينما يتعامى تماماً عمّا يحدث هنا، في الجزائر.

الجيش، وقادته لم يَسلَموا هم الآخرون من السخرية. حين دعا الجيش لانتخابات رئاسية، رغم مطالبة الحراك بإسقاط الحكومة أولاً، خرجت آلاف الغريدات الساخرة من هذا القرار، يظهر في الصورة أمير دولة واكاندا في فيلمThe Black Panther، وهو يردّد جملة يقول فيها "We don’t do that here" (نحن لا نقوم بهذا هنا)، وكتب على الصورة: "حابّين انتخابات شفافة" (نطالب بانتخابات شفّافة).

لا يمكن للحراك إلا أن يكون ساخراً! لأنّ "المزاح كان على الدوام مناهضاً للسلطة" حين يقرّر النظام متابعة الناشطين السياسيين بتهمة "إحباط معنويات الجيش" لا يمكن إلا أن تثور السخرية؛ أي ردّ جادّ يمكن توجيهه إلى قرار كهذا!

والحراك ساخر لأنّه يشترك مع السخرية، مع تعابيرها على وجه التحديد، في أربع خصائص أساسية، سيكون من الصعب الإفاضة فيها، لذلك نذكرها هنا على وجه الإيجازّ: التعمية، والهدم، والإبداع، وصعوبة إخضاع النظام لها.

التعمية: لا أحد يعرف مَن يكتب تلك الجمل الساخرة التي تنتشر في المظاهرات وعلى مواقع التواصل. من السبت حتى الخميس، يمتلئ فيسبوك بآلاف المنشورات التي يتمّ رفعها يوم الثلاثاء والجمعة، وتشترك جميعها في أنّها لا تُنسب إلى أحد. وكما أنّ الحراك لا يزال عصيّاً على التمثيل (هاشتاج ظهر مؤخرا: #ما_تهدرش_باسمي)، كذلك هو منطق المنشورات، لا يعرف من أول من أبدعها، الأمر الذي يجعل مشاركتها مخاطرة مأمونة العواقب مقارنة ببقية النماذج: كالظهور على التليفزيون، أو كتابة مقال، أو حتى أداء أغنية. جميع هذه تشترط حقوق تأليف، بلغة أخرى: عنواناً يعرفه البوليس.

الهدم: والسخرية أفق هدم لا أفق بناء، تماماً مثل ما عليه الحال في حراك الجزائر. "الحراك محاولة لـ"بَثّ الخلل في النظام"، وتحديداً نقل الأزمة إلى معسكره وتركه يتعامل معها، وحيداً، بآلياته. لحظة الحراك، كما يعبّر عنها السياق في الجزائر، هي لحظة طرح الأسئلة ورفض الأجوبة: رفض تقديم أجوبة أو حلول محتمَلة للنظام، ورفض لأجوبته كذلك"، تتقاسم السخرية هذا الموقف مع الحراك، فهي لا تهدف إلى تقديم حلول عن الوضع الذي تنتقده. تشير إليه، تبيّن تناقضاته، تجمع الناس حولها لإسقاطه، ولكنها ليست، أبداً، قولاً مُوجَباً من الحياة.

الإبداع: والحراك يحاول كلّ مرّة أن يكون مختلفاً، على مستوى الشعارات، والأفكار، والفضاء الذي يحتلّه. إن كان للحراك من أثر على المواطن في الجزائر، فهو أنّه نزع من يومه الروتين، لم نعُد نغتسل من ماء النهر مرّتين، وكل يوم، ثمّة شيء ما يخبّئه الحراك. والتعابير الساخرة لها نفس المنطق، تحتاج إلى أن تكون متجددة أبداً، بل وتحتاج إلى أن تكون على مستوى متقدّم من الإبداع، والرمزية، حتى تتمكن من إدخال السرور على المتظاهرين، السرور الذي أعتبره سبب خروج الجزائريين لـ9 أشهر كاملة دون انقطاع. يقول غوته "السرور يولّد الثقة"، وتلك الضحكات التي يتشاركها الجزائريون في المقاهي مساء أيام الأسبوع، هي، في نظري، محرّكاتهم لمسيرتي الجمعة والثلاثاء.

صعوبة إخضاع النظام لها: يتميّز كلّ من الحراك والتعابير الساخرة بالسيولة، بالـ"ما بينية". لا يمكنك أن تشير إليه أو تحدّده. كلاهما يتمّ أساسا في عالم وهمي، على مواقع التواصل، قبل أن تتبنّاه الجماهير الغاضبة. يتّسم الحراك بأنّه تَشارُكيّ، يرغب الجميع في "الوجود معه"، وهو نفس ما تتميز به السخرية، الجميع يريد أن يكون مضحكاً، أو أن يضحك على الأقل. هذه الغريزة في الإنسان لا يمكن إخضاعها، لأنه لا يمكن تحديدها أساساً. وحتى إن اعتقلت الدولة جميع المتظاهرين، فسيظلّ الأطفال في الشوارع، وهم يرمون "بيزانهم" يتندّرون بالجماعة لفوق، فقط هذه المرّة ستكون أسماء مثل: بدوي، وبن صالح، والقايد صالح!

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِّر بالضرورة عن TRT عربي.

 مجموعة شباب، حاملين شعارات مختلفة.الأول رسالة للحكومة الجزائرية، من زمان ونحن نحاول إسقاطها، فاستخدم عبارة الطلاق ثلاثا
في الصورة فوق علي بن فليس، رئيس وزراء أول حكومة لبوتفليقة، أقاله بوتفليقة فتحول للمعارضة. فيقول: منذ ولدت وأنا أترشح للرئاسيات، ولم أفز بعد. فيجيبه الذي في الصوة أسفل وهو شيخ دين يدعى علي عية ومشهور في الجزائر قام مؤخرا بنصح وزير أو رئيس وزراء على الملأ، على طريقة القدماء. فهوا يجيبه، عملوا لك سحر، لازم تفكّه
TRT عربي
الأكثر تداولاً