متظاهر يلقي زجاجة أثناء اشتباكات مع الشرطة في الجزائر العاصمة ، الجزائر ، 29 مارس 2019. (AP)
تابعنا

يميز الاقتصاديون ما بين قطاعات منظمة، منها القطاع الأول والذي يحيل على الزراعة، والقطاع الثاني الذي يحيل على الصناعة والقطاع الثالث على الخدمات، ويُدرجون مصطلح القطاع غير المنظم على كل نشاط لا يخضع لهذا التقسيم، ولا يخضع للقواعد الجارية في المحاسبة. وتكبر في الدول النامية نسبة القطاع غير المنظم، وهو مؤشر على عدم تطور اقتصاد ما.

يمكن بالتبعية أن نتحدث عن قطاع سياسي غير منظم لا يخضع لتأطير الأحزاب، ولا الهيئات الوسيطة من نقابات وهيئات منظمة، ولا لقواعد ملزمة من انتخابات أو مطابقة الانتخابات مع المسؤولية، ولا للمحاسبة وفق قواعد سياسية واضحة أو مؤسسية.

اللافت في العالم العربي أن السياسة لا تجري وفق القواعد المعمول بها في المجتمعات الحديثة، من الخلال التباري عبر الانتخابات والأحزاب والهيئات الوسيطة. وحينما توجد، يظل دورها صوريا، ولا تزيد الانتخابات عن تكريس أوضاع قائمة، وتزكي هيمنة "الدولة العميقة" المتحكمة في كل شيء والتي توجد خارج دائرة المحاسبة.

وحينما تكون المحاسبة فهي لا تخضع للموضوعية بل للظرفية أو المزاجية أو السياسية. و يمكن المجازفة بالقول إن هذا الوضع غير مقتصر على العالم العربي، إذ يكفي أن يلحظ المرء ما يجري في فرنسا، مع أصحاب البدلات الصفراء قبل سنة، وموجة الاحتجاجات الي تعرفها حاليا، من أجل إصلاح نظام التقاعد ليقف الإنسان على أزمة الهيئات الوسيطة وأزمة السياسة بها. ويمكن التدليل كذلك مع شيوع الاتجاهات الشعبوية بأوربا التي عصفت بالأحزاب القديمة، وأظهرت على الواجهة تنظيمات جديدة.

تتحول السياسة حينها لتتجاوز وضع الاحتقان القائم إلى الشارع، وإلى اشكال جديدة للاحتجاج غير مسبوقة. أثارت سابقة البدلات الصفراء في فرنسا إلى احتجاج أصحاب بدلات حمراء في تونس، ولو أنها لم تعمر. وراهن الكثيرون في فرنسا على خفوت تأثير البدلات الصفراء، التي عاد وهجها في بحر هذه الأسبوع مع موجة الإضراب ضد نظام التقاعد المعمول به في فرنسا.

لا يمكن طبعا نعت الأشكال الجديدة بانعدام الوعي، فهي تعبر عن وعي متجدد، أمام احتقان وضع وصمم "الدولة العميقة" وصورية التمثيل.

في المغرب، نرى أشكال للاحتجاج غير مسبوقة، كان لها تأثير كبير أكثر من الهيئات الوسيطة، من أحزاب ونقابات. قبل سنتين تمت مقاطعة استهلاك بعض المواد لشركات وشخصيات جمعت بين السلطة والثروة أو للتنديد بارتفاع هامش الربح بشكل غير معقول. وذهبت المقاطعة برأس وزير المالية حينها الذي نعت المقاطعين بتعبير قدحي "المداويخ" (الحمقى أو النوكى). ودفعت شركة الحليب إلى التفاوض حول هامش الربح.

ومن الأشكال الجديدة هي ظاهرة "التيفو" أو الأناشيد التي يصدح بها مشجعون على مدرجات ملاعب كرة القدم. وتتميز تلك الأناشيد بخطاب سياسي واضح. وقد تجاوز صيتها حدود المغرب منذ نشيد فريق الرجاء "في بلادي ظلموني" ثم مع "الحبيبة فلسطين"، وتناسلت الظاهرة مع فرق أخرى، بحيث غطت تلك الأناشيد على المباريات الكروية ونتائجها، وأصبح ما يتم تبادله هو تلك الأناشيد، لا المباريات ولا نتائجها.

وعرف الحراك في الجزائر استعمال الغناء، ومنها أغاني الراب للتنديد بما يسمى بالعصابة، وانتقلت ظاهرة الاحتجاج عبر الراب إلى المغرب، من خلال أغنية "عاش الشعب"، في خطاب غير مسبوق وغير معهود. واللافت هو عدد من استمعوا للأغنية، حيث تجاوزا عتبة العشرين مليون.

وتناسلت ظاهرة الاحتجاج عن ظاهرة سكايب في المغرب أسوة بما أقدم عليه المعارض المصري محمد علي.

يوعز عالم سوسيولوجي مغربي تفشي أساليب الاحتجاج غير المنظمة إلى إفراغ الأحزاب من دورها، وقبولها بالأمر الواقع، وتهميش المثقفين، وتعقب الأصوات الحرة، مما أفضي إلى فراغ ملأته وحدات غير منظمة. فالسياسية، مثلها مثل الطبيعة تأبي الفراغ.

تختلف طبيعة العمل السياسي المنظم عن العمل السياسي غير المنظم، فالأول الذي يتم من خلال هيئات وقواعد متواضع بشأنها، يخضع لقاعدة التفاوض، أو ما يسميه الأمريكيون بالمساومة، على خلاف العمل السياسي غير المنظم الذي يطبعه الغلو، والمزايدة، ويرفض الحلول الوسطى.

ليس من الذكاء تعقب هذه الأشكال الجديدة للاحتجاج، وإنما التصدي للأسباب التي دعت لها. فهي لم تظهر من فراغ، و تنطلق من معطى موضوعي، يتسم بفراغ السياسة من قيمها النبيلة، لإحقاق الصالح العام، وفق تصورات وبرامج، واقتصار الساسة أو الأحزاب على دور صوري أمام سطوة "الدولة العميقة" وتغلغلها، واستفحال الأزمة الاجتماعية أمام نفوق الليبرالية الجديدة، التي عمقت الفوارق الطبقية. 

بالمغرب، أقدمت الحكومة على منع أغاني الراب. والحال أن شكل الراب هو إطار ليس أكثر، وليس المهم شكل الغناء، ولكن محتواه، ويمكن للاحتجاج أن ينتقل إلى شكل آخر. وفي مصر تتم المراقبة على الأنتريت ومنع استعمال الواتساب في المكالمات.

الإطار الطبيعي هو العودة إلى القواعد الناظمة للعمل السياسي، من خلال الهيئات الوسيطة، من أحزاب ونقابات وصحافة حرة، وأصوات نقدية، وانتخابات فعلية، وقضاء مستقل. تسييج العمل السياسي هو الذي يؤدي إلى الاحتقان، ومن ثمة إلى بدائل غير منظمة. هي أعراض لأدواء وليست هي الداء، كما تجنح بعض القراءات المبسطة.

في كتاب السياسة يُجري أرسطو مقارنة ما بين جسم الإنسان وجسم المدينة (أو الدولة)، التي يعتريها ما يعتري جسم الإنسان من وهن ومرض يبدو أن من خلال أعراض. والطبيب الجيد هو من يتصدى للأسباب وليس للأعراض. القطاع السياسي غير المنظم ليس هو المشكل، بل عرَض لأدواء عميقة، وهي ما يتحتم معالجتها.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِّر بالضرورة عنTRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً