تابعنا
تعود إشكالية العلمانية في الوطن العربي إلى التصورات الخاطئة التي تتخذ من العلمانية شكلاً واحداً معادياً للحرية الدينية. وهي التصورات التي عززها الاستبداد، والتدين الرسمي وفساد النخب العلمانية العربية.

يقع كثيرون من أصحاب الرأي في فخّ التعميمات المسبقة حول واقع العلاقة بين الدّين والدولة في الغرب؛ فعلى سبيل المثال علّقت كثير من المقالات المنشورة في منصّات عربية أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي باستهجان عن حادثة تأبين الرئيس الأسبق جورج بوش الأب داخل كنيسة يحتضنها مبنى الكونغرس، وبتلاوة مقاطع من الكتاب المقدس.

ذات الاستهجان الممزوج بالدهشة تبع مناسبة ما يسمى "إفطار الدُّعاء الوطني" في واشنطن حين غطّى الإعلام تصريحات لدونالد ترمب خلال هذه المناسبة، وهو حدث سياسي يكتسي طابعاً دينياً، ويعقد في الولايات المتحدة في كل فبراير/شباط منذ الخمسينات. اللافت بالنسبة لي أن غالبية ما قرأته من تعليقات كانت تهاجم ما اعتبرته ازدواجية الولايات المتحدة في مطالبة العالم العربي بالعلمانية بينما تنخرط الدولة هناك بعلاقة ودّية مع الدِّين.

تستند الانطباعات والتصوّرات حول العلمانية في العالم العربي إلى ممارسات قمعية في عددٍ من الدول العربية، تعود جذورها إلى الاستبداد السياسي لا العلمانية، وذلك من قبيل قوانين منع الحجاب في المدارس العامة، و حظر تدريس التربية الإسلامية في المراحل التأسيسية، وإغلاق المساجد في غير أوقات الصلاة، إلى جانب العلاقة المشحونة بين رجال الدين والدولة، فلو أخذنا تونس، على سبيل المثال، كدولة وضعت منذ استقلالها العديد من القيود على الحرّيات الدينية نجد أن دستورها ينصّ على أن الإسلام هو دين الجمهورية لا العلمانية!، وكذلك الحال في سوريا التي مارس فيها نظام البعث تجريفاً للهوية الدينية على مدار عقود، ما يُبرز أهمية التفريق بين الممارسات النابعة من الاستبداد، الذي يشمل جميع مؤسسات وتوجهات المجتمع، وليس فقط تديُّنه، وبين الممارسات النابعة من جوهر العلمانية.

تستند الانطباعات والتصوّرات حول العلمانية في العالم العربي إلى ممارسات قمعية في عددٍ من الدول العربية، تعود جذورها إلى الاستبداد السياسي لا العلمانية.

أماني السنوار

الجانب الآخر الذي يُساهم في تشكيل التصوّرات العربية حول العلمانية، هو الممارسات "اللائكية" المتشددة التي تقوم عليها الثقافة السياسية في فرنسا، والتي وجدت رديفها مؤخّراً في عدد من الدول الأوروبية في ذورة الحرب على ما يُسمّى الإرهاب، كانت الجالية المسلمة العريضة في فرنسا الضحية الأولى للعلمانية المتشددة التي توجّهت نحو حظر الحجاب والتضييق على المؤسسات الإسلامية واستغلال حالة الطوارئ للجوء إلى اعتقالات تعسفية ضد رموز وأفراد الجالية المسلمة، وقد تداخلت دوافع علمانية وأخرى لها علاقة بالإسلاموفوبيا والنظرة الدُّونية تجاه الشرق "الإسلام" في تأجيج هذه الممارسات، وبطبيعة الحال غذّت هذه الحوادث في العقل العربية تصوراته عن عداء العلمانية لأية مظاهر أو ممارسات دينية، ووصل الحال إلى اعتبار بعض البسطاء ورجال الدين أن العلمانية رديفٌ للإلحاد أو مدخلٌ نحو الكُفر بالإسلام.

وقد ساهم في تعزيز هذه التصورات فساد الكثير من النخب العلمانية العربية، وجهلها بالأدبيات السياسية العلمانية، وعلاقتها المشبوهة مع أنظمة الاستبداد في مواجهة الشعب وحريته ومن ضمنها الحرية الدينية.

يحتاج أيُّ نقاش عربي إلى تفكيك المسألة العلمانية من زاويتين: الأولى هي المقاربة العلمانية للحريات الدينية؛ حيث انصبّ جُلّ الالتباس والاهتمام العربي، والثانية هي علاقة العلمانية بالتشريع السياسي في دول ذات أغلبية مسلمة تؤمن أن الإسلام مصدر أساسي للتشريع. والحقيقة أن الكثير من الأدبيات في العالم العربي عجزت عن تفكيك زاوية النقاش الثانية حين انشغلت بالأولى، بما فيها جماعات الإسلام السياسي التي لم تقدّم أجوبة كاملة وواقعية في هذا السياق على الرغم من وصول بعضها للحكم.

وحتى يُبنَى أي نقاش على أسس سليمة فلا بدّ من التفريق بين مدرستين أساسيتين في العلمانية: الأولى هي المدرسة الحازمة أو Aseertive secularism، وهي ذاتها التي سماها عبد الوهاب المسيري بالعلمانية الشاملة، وتحدث عنها باستفاضة كل من أحمد كورو "تركيا" وطلال أسد" الولايات المتحدة"، وتتسم بعلاقة الدولة العدائية للمؤسسة الدينية بما يشمل محاولات السيطرة عليها وتجييرها لخدمة السياسة، إلى جانب حصر الممارسة الدينية في الفضاء الخاص "شعائر فردية" ومنع المؤسسة الدينية من تطوير مقاربات مستقلة حول الشأن الاجتماعي والسياسي، وأفضل الأمثلة عليها هي العلمانية الفرنسية (اللائكية)، والتي كانت أبرز ثمار الثورة الفرنسية التي قامت ضد ثنائية الملكية والكنيسة كرمزين للاستبداد، وقد تأثرت الجمهورية التركية الحديثة في مراحلها الأولى بعلمانية فرنسا فضيّقت الحريات الدينية وربطت بين الإسلام والتراجع السياسي والحضاري، ولعلّ التشابه في السياق التاريخي لنشوء العلمانية في كل من فرنسا وتركيا، بُعَيد سقوط الخلافة، يفسّر المقاربة العدائية للدّين في كلا النظامين.

وعلى العكس من هذا النموذج، طوّرت الولايات المتحدة شكلاً مغايراً للعلمانية أكثر تصالحاً مع الدّين، وأكثر قبولاً من قبل الكنيسة الأمريكية ذاتها التي طالبت بالعلمانية، سواء أكانت كاثوليكية أو إنجيلية، وتتلخص العلمانية الأمريكية في أنها حيادية الدولة تجاه الأديان في مقابل استقلال الكنيسة عن الدولة، ويمنح هذا الاستقلال حرية اعتقاد، وتديناً أوسع بعيداً عن محاباة الدولة لاتجاه مسيحي دون آخر، ولا يعني ذلك بالضرورة أن الكنيسة ممنوعة من تطوير مقاربات اجتماعية او سياسية، بل هي في صلب صناعة السياسات والتشريعات ضمن القوانين المحلية، وحاضرة أيضاً في انتخابات الكونغرس والرئاسة.

لطالما كان الدين هو الضحية إما عبر القمع والتجريف أو عبر الاستغلال والتطويع لخدمة القبلية السياسية والاستبداد.

أماني السنوار

وعلى الرغم من أن النموذج الأمريكي فريد في سياق علاقة الدولة بالكنيسة فإن دولاً غربية أخرى تتبع ذات المدرسة في شكلها العام، والتي سماها أحمد كورو بالعلمانية السلبية Passive seculrarism والمسيري بالعلمانية الجزئية؛ حيث لا تسعى للفصل الكامل، إنما الجزئي، بين الدين والسياسة لصالح إعطاء المؤسسة الدينية استقلالية ونزاهة أكبر.

كان ذلك في الغرب، أما في العالم الإسلامي فلعل من الأمثلة الرائدة للتعايش، ما بين المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة والعلمانية، هو النموذج الذي قدّمته كل من ماليزيا وتركيا "العدالة والتنمية" في احتضان التديّن الشعبي واحترام توجهات الجمهور المسلم عند التشريع رغم علمانية الدستور ومؤسسات الدولة السيادية؛ ففي تركيا التي ورثت علمانية متشددة أقسى من اللائكية الفرنسية في سعيها لتجريف هوية وتديّن المجتمع، استطاع حزب العدالة والتنمية الحاكم إدخال تحولات جوهرية على علمانية الدولة.

وباعتقادي فإن سبب هذا النجاح يعود لوعي السياسيين الأتراك بجوهر العلمانية بعيدا عن فخ التنميط والأحكام المسبقة إلى جانب عدم معاداتهم للعلمانية كمبدأ سياسي بل سعيهم للتحول نحو النموذج الأمريكي للعلمانية الأكثر تصالحاً مع الدين، وهذا ما صرّح به الرئيس اردوغان في زيارة له إلى واشنطن عام 2007 حين قال: "نحن لسنا ضد العلمانية. لكننا نريد علمانية شبيهة بما لديكم هنا في أمريكا. استخدمت العلمانية كأداة لقمع الأديان في تركيا. في البلدان العلمانية ، يتمتع الناس بحرية كونهم متدينين أو غير متدينين". وهذا يقتضي حياد الدولة تجاه العقائد لا معاداتها.

إن كان الاستبداد السياسي هو العلامة الأبرز في المنطقة العربية فإن تواطؤ “الإسلام الرسمي" على توفير المبررات الدينية لتدعيم الاستبداد يزيد من تعميق أزمة الديمقراطية.

أماني السنوار

وعلى الرغم من أن النموذج التركي ما زال في طور البناء، فإنه نموذج يستحق الدراسة في شرق أوسط يغرق في علاقة مضطربة بين الدّين والدولة، لطالما كان الدين فيها هو الضحية إما عبر القمع والتجريف أو عبر الاستغلال والتطويع لخدمة القبلية السياسية والاستبداد؛ ففي دولة مثل مصر تحتضن الأزهر الشريف كمنارة علمية إسلامية عمرها يزيد عن الألف عام، جرّد الاستبداد السياسي منذ الخمسينات مؤسسة الأزهر من هيبتها الدينية واستقلاليتها؛ حيث أصبح رئيس الأزهر يعيّن من قبل رئيس الجمهورية عوضاً عن انتخابه من قبل هيئة علمية مستقلة، وتحوّل الأزهر عبر فتاواه ومواقفه السياسية إلى مؤسسة تضفي الشرعية الدينية على نظام سياسي فاقد لكل أسس الشرعية.

وفي دولة تنتهج العلمانية السياسية والاقتصادية، لكنها تتبنى الإسلام في الفضاء الاجتماعي، قاد الزواج ما بين الوهابية الدينية والقبيلة السياسية إلى تأسيس وضمان استقرار الحكم في السعودية على مدار عقود، وتمّ احتكار تمثيل الإسلام من قبل نخبة دينية، تمتعت بمزايا وروابط متينة مع النخبة السياسية مقابل توفير الشرعية اللازمة، ليس فقط لاستقرار النظام السياسي؛ بل أيضاً لربط انتقاده بانتقاد الإسلام والثورة على أحكامه، وقد قادت مثل هذه النماذج إلى توريط المؤسسة الدينية في دعم الاستبداد السياسي وترسيخه، وإلى تطوير مقاربات فقهية تدعم ذلك، وقد باتت هذه المقاربات تتسرب إلى الثقافة الدينية التأسيسية في العقل العربي.

وإن كان الاستبداد السياسي هو العلامة الأبرز في المنطقة العربية، فإن تواطؤ "الإسلام الرسمي" المدعوم والمتحكم به من قبل الدولة على توفير المبررات الدينية و"الأخلاقية" لتدعيم الاستبداد يزيد من تعميق أزمة الديمقراطية والحريات في المنطقة، ويُسيء بالضرورة إلى نزاهة الفكرة الدينية، ما يجعل الحاجة ملحّة أكثر من أي وقت مضى لتحرير الالتباس في علاقة الدين والدولة في العقل العربي، إلى جانب دراسة فرص كون العلمانية بمعناها الماثل في حيادية الدولة واستقلال المؤسسة الدينية حلاً ناجعاً لثنائية الاستبداد الديني والسياسي في العالم العربي.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً