تابعنا
كيف تسهم تكنولوجيات المعلومات والاتصال في تعزيز عنصر التفاهمة في المجتمعات كطريق للوصول إلى الشهرة أو ما يسميه بعض علماء الاجتماع بـ"التمشهدية".

من المؤكد أننا منتمون، بالإكراه لا الاختيار، إلى مجتمع موغلٍ في التفاهة والرداءة، مؤكد أننا سائرون، من غير رجعة، نحو حافة الإفلاس الإنساني، فلا شيء يبعث على الاطمئنان في سياق تصير فيه الشهرة والنجومية من نصيب الأكثر تفاهة والأكثر فضائحية، إنه الموت المقنَّع بالحياة، وإنه الخسران المكين في ظل هذا الانشغال الجماعي بالـ"BUZZ" فعلاً وانفعالاً وتفاعلاً، فالكل يبحث عن الظهور وتسجيل الحضور في الواقع والافتراضي، وإن كانت الطريق إلى الهدف المنشود، مفتوحة على الفضيحة والخسارة واللا معنى، فما يهم هو عدد "اللايكات" والمشاهدات والتعليقات.

في المغرب، كما في كثير الأنساق العربية، لا حديث هذه الأيام إلا عن شاب قادم من زمن الأخطاء، تعذّر عليه النطق السليم لأنفلونزا الخنازير، اختار تسميتها بـ"إكشوان إكنوان"، ومنه صار الشاب/الضحية يستعمر الشاشات والصفحات، لقد انتقل، وفي زمن قياسي، من المجهولية إلى الشهروية، وتحديداً في زمن كانت فيه الدار البيضاء تستقبل مثقفي العالم ومبدعيه خلال معرض الكتاب، والذين تعذر على القنوات الرسمية التعريف بهم والانتباه إلى منجزاتكم الفكرية.

فعصر الصورة يغذينا بأوهام لا حصر لها فقد يمنحنا الاعتقاد بالانتماء إلى سجل ديموقراطية الانتفاع وحتى امتلاك سلطة القرار.

عبد الرحيم العطري

هنا بالضبط نستحضر "البوز" BUZZ كظاهرة سوسيو تقنية أفرزها الانتماء إلى زمن الصورة، ذلك أن الرهان الأقصى للمنتمين لذات العصر هو تحقيق أعلى درجات "البوز" الممكنة، أملا في حصاد الشهرة والخروج من سجل المجهولية إلى المعروفية، ولا يهم أن تكون الوسيلة دوساً على المشترك القيمي، أو عبثاً بالحياة الخاصة، أو حتى انتهاكاً للمحذور والمحظور، المهم أن تتحقق الشهرة ويصير صاحب "البوز" موضع حديث في ال (هُنا) والـ (هُناك).

إن أسماء غريبة من قبيل "إكشوان إكنوان" و"أدومة" و"ساري كول" و"نيبا" وكل احتمالات الرداءة، صارت تتردد على نطاق واسع، فيما الكبار من المفكرين والمساهمين في بناء الحضارة، لا أحد يعرفهم أو يخطب ودهم.

أن تصير نجماً في أزمنة الرداءة، أمرٌ لا يستوجب التوفّر على كثير من الرسائل الاجتماعية، فليس مطلوبا منك أن تكون من آل الدماء الزرقاء، ولا أن تحوز شهادات عليا من أعرق الجامعات، ولا أن تُدرج قبلاً في أكثر التنظيمات راديكالية، ولا حتى أن تكون صاحب صوت طروب.

إن هي إلا خيمياء اللعبة التي تخبط خبط عشواء، والتي قد تجعل المبنيّ للمجهول معلوماً ومخطوباً ود من قبل الملايين، وفي زمن قياسي يكفي فقط أن تعرف دقائق اللعبة، وأن تتوفر على إرادة فولاذية للاستمرار في درب بناء الشهرة على ضفاف أودية السيليكون.

ولكي نفهم البوز كظاهرة سوسيو تقنية لا بأس أن نعود إلى شرطها اللغوي الأولي، الذي يدلّ على الصوت الذي يحدثه طيران الذباب، فتلك الحركات اللانهائية، التي يمارسها الذباب، تختزل معنى "البوز" في ميدان الدعاية والإعلان؛ حيث يغدو الأمر متصلاً بحديث متكرر حول منتوج معين بغرض التحفيز على استهلاكه والإقبال عليه، ومنه يصير "البوز" نوعاً من "المَطْرَقَةِ الإعلانية" التي تستعير "ثقافة الذباب" في الطيران.

ولكي نفهم البوز كظاهرة سوسيو تقنية لا بأس أن نعود إلى شرطها اللغوي الأولي، الذي يدلّ على الصوت الذي يحدثه طيران الذباب، فتلك الحركات اللانهائية، التي يمارسها الذباب، تختزل معنى "البوز" في ميدان الدعاية والإعلان؛ حيث يغدو الأمر متصلاً بحديث متكرر حول منتوج معين بغرض التحفيز على استهلاكه والإقبال عليه،ومنه يصير "البوز" نوعاً من "المَطْرَقَةِ الإعلانية" التي تستعير "ثقافة الذباب" في الطيران.

ما تقوم به الصورة في سياق التفاهة والتتفيه هو إنتاج الهروب من الواقع عبر بوابات الترفيه.

عبد الرحيم العطري

لقد ساهم عصر الصورة التي ننتمي إليه، في توسيع مسالك "البوز"، فالفيسبوك مثلا سمح لكل واحد منا باستعراض صوره وذكرياته وتفاصيل حياته الدقيقة، كلها تستعرض على جدران إلكترونية، تعلن التقاسم وتضمر الرغبة في التمشهد و"البوز" وحصد "اللايكات".

ولعله السبب الذي جعل ريجيس دوبري ينبّه إلى أوهام الصورة أيضاً، فعصر الصورة يغذينا بأوهام لا حصر لها، فقد يمنحنا الاعتقاد بالانتماء إلى سجل ديموقراطية الانتفاع، وحتى امتلاك سلطة القرار، لكن في الآن ذاته يمارس علينا نوعاً من "الاستبداد الرقمي" الذي ينكشف في عبوديتنا الرقمية، وصعوبة الفكاك من أسر التكنولوجيا، وحتى من سحر التمشهد و"البوز".

إن الاستعادة الرمزية والمادية لطيران الذباب، والتي تتراءى أمامنا بوضوح تام، ونحن نتصفح الافتراضي أو نشاهد الصورة التلفزيونية، تسير حتماً في اتجاه تسييد اللذة على العقل، فـ"البوز" المدبّر والمفكر فيه، يؤسس لزمن اللذة بدل زمن الواقع والعقل، فالقنوات التلفزيونية الخاصة باستثمار الجسد والجنس، في شكل برامج إغراء صريحة أو برامج غير مباشرة كمسابقات الغناء والتلفزة الواقعية، ومسابقات الأرباح الخيالية، كلها تستحوذ على مساحات مهمة من زمن البث، في حين يظل الزمن المخصص للعقل و التنوير متعرضاً باستمرار للنقص والتحجيم. وهو ما يثمر نهايةً فقراً في الثقافة وثراءً في التفاهة.

ما تقوم به الصورة في سياق التفاهة والتتفيه هو إنتاج الهروب من الواقع عبر بوابات الترفيه، فهناك مراهنة دائمة على تسويق الخيال وإنتاج واقع افتراضي آخر لا علاقة له بالواقع المعيش.

فعن طريق المسابقات يتم تسويق الخيال، ونسف الارتباط بالواقع، دفعاً بالمتفرج إلى الانفصال المؤقت عن إكراهات اليومي، والارتحال به نحو عوالم أخرى تعفيه من السؤال والنقد، أو على الأقل تحقق له رمزياً انتصارات وهمية على خصومه الطبقيين؛ بحيث يصير مثلاً برنامج حواري يستضيف صانعاً للقرار السياسي، وإحراجه بالأسئلة، مناسبة لتفريغ السخط المتراكم. و إن كان ذلك كله لا يحل المشكل بل يعد مجرد صناعة للوهم والهروبية.

أليست وظيفة الصورة اليوم هي التحريض على الاستهلاك و"عبادة" نجوم الوقت واللهاث وراء العلامات التجارية؟

أليست وظيفتها غير المعلنة هي إنتاج الخمول وفئات بشرية من جلساء الأرائك و آكلي "الشيبس"؟

ألا تنتج سياقات "البوز" والتفاهة واقعاً من اللا تسيس يقود نهاية إلى تجريد الواقع من واقعيته؟

فـ"البوز" وفي كل عصر هو بحث عن الاعتراف بالوجود إنه تذكير للآخرين بأنه ثمة شخص هنا يريد منكم أن تعترفوا به.

عبد الرحيم العطري

جون كازانوف يجيبنا بالقول بأن الوظيفة الأساسية لوسائل الإعلام اليوم، والتي لا يمكن بدونها أن نفهم الوظائف الأخرى هي "وظيفة الاستعراض (التمشهد)"، بمعنى نقل الواقع إلى استعراض، فالاستعراض هو محاكاة بهذا القدر أو ذاك للواقع؛ ولأنه محاكاة في الأصل، فإنه يحتمل التحوير والتزييف، فالتمشهد ليس الواقع، لكنه نسخة مطابقة للأصل بمقدار ما.

من هنا يصير "البوز" ظاهرة تمشهدية تتيح لفاعلها التمسرح أمام الآخرين، مع ما يستوجبه هذا التمسرح من شروط الفرجة ضماناً للمتابعة وحصداً في المختتم لنقرات الإعجاب ومسارات الشهروية. ولتحقيق ذلك كله لا بد من الاشتغال على ما يثير الانتباه وما يستجلب الاهتمام، من تفاصيل ثالوثنا المحرم (الدين، الجنس والسياسة).

فكلما كان الاشتغال عميقاً، عفواً سطحياً، على هذه الأساسيات الثلاثة كلما كان "البوز" أقوى إثارة وأكثر تداولا في السياق العام.

لا يعني ما سبق أن التمشهدية أو "البوز" بلغة العصر، هي نتاج خالص للزمن الراهن، أبداً فلكل زمن فضائحياته وفظاعاته القصوى، لكن السياقات تختلف، فالرغبة في "الظهورانية" منغرسة في أعماق الإنسانية منذ البدء، ولهذا فالصيغ سارت في مسالك عديدة قبل أن تلاقينا اليوم في صورة فيديوهات وصور فوتوغرافية وتصريحات نارية وخرجات إعلامية تحتمل توصيف "البوز".

إن ادّعاء النبوة في أزمنة سحيقة من صميم تمشهدية عصرهم، وإن الصعلكة والإتيان بالغرائبي من سلوكات، هو من ذات الانقلاب على الجمعي والبحث في الآن ذاته عن اعتراف هذا الجمعي. فـ"البوز"، وفي كل عصر، هو بحث عن الاعتراف بالوجود، إنه تذكير للآخرين، بأنه ثمة شخص هنا، يريد منكم أن تعترفوا به.

إننا في زمن الصورة نستحضر أفلاطون وأرسطو والفارابي وابن خلدون من أزمنة بعيدة لكننا نعجز عن تذكر صاحب بوز الأسبوع الفائت فالبقاء للأثر لا للتمشهدية المفتوحة على الرداءة والتفاهة.

عبد الرحيم العطري

ولا عجب أن يكون الكثيرون من آل "البوز" في الـ(هُنا) والـ (هُناك)، قد فشلوا قبلا في تجريب بعض مسارات الحياة، ولهذا انتقلوا بجرعات جرأة أو فضيحة أكبر، ليقولوا للجميع،"إننا هنا بالصوت والصورة شئتم أم أبيتم".

إلى ذلك يبقى "البوز" طريقا مختصرا إلى الشهروية والظهورانية، لكنه مهدد في كل لحظة بالسقوط الفظيع، إنه "نجاح" مؤقت لا يضمن الخلود، عابر كما عابروه، يصنع مجداً زائفاً سرعان ما يقابله المتتبعون بذاكرة السمك، فبنفس درجة الصعود يكون الاندحار سريعا نحو النسيان.

فالبقاء للأثر الدال، وليس لـ"بوز" مُغرق في التفاهة والفضائحية، إننا في زمن الصورة نستحضر أفلاطون وأرسطو والفارابي وابن خلدون من أزمنة بعيدة، لكننا نعجز عن تذكر صاحب بوز الأسبوع الفائت، فالبقاء للأثر لا للتمشهدية المفتوحة على الرداءة والتفاهة.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً