تابعنا
يسعى القضاء في دولة الاحتلال الإسرائيلي لأن يكون ضلعاً أساسياً في نظام الأبارتايد ضد الفلسطينيين وذلك من أجل جعل سياسة إسرائيل العنصرية تبدو كأنها قانونية.

كثيراً ما تصدر أصوات عربية -بعضها مشبوه- تُشِيد بالديمقراطية الإسرائيلية وقوة مؤسساتها، واستقلال قضائها الذي يقاضي حتى رؤساء الوزراء. وفي ذات الوقت تتغنى إسرائيل دولياً بديمقراطيتها التي تصفها بأنها "الوحيدة في الشرق الأوسط" وتروّج لنفسها بين نادي الدول الغربية، فنكاد نرى سفراء إسرائيل كلما أحرجتهم عنصرية سياسات حكوماتهم يلجؤون لهذه المقولة دفاعاً عن صورتهم. ولا يتسع هذا المقال للحديث حول ديمقراطيتها المزعومة، ويكتفي بالحديث حول القضاء الإسرائيلي الأعرج، الذي لا يليق بديمقراطية بأي حال.

تتلخص فكرة هذه السطور في أن القضاء الإسرائيلي هو جزء لا يتجزأ من منظومة الأبارتايد القائم على فكرة استعمار الأرض وإخضاع الإنسان الفلسطيني دون منحه أي حقوق سياسية أو مدنية، ولكن بطريقة لا تحرج حلفاء إسرائيل. فإسرائيل في النهاية هي جزء من المنظومة الغربية التي تنادي بالديمقراطية ولا تتقبل وجود مواطنين درجة ثانية أو ثالثة -بشكل فج. لذلك تقوم باستعباد الفلسطينيين تحت حكم القانون وبمقتضاه، فإن سرقت، تسرق بحكم القانون ومباركة قضاته.

إسرائيل والقانون الدولي: "شرّ لا بدّ منه"

بإمكان المتتبع للسلوك القانوني الإسرائيلي أن يدرك بسهولة المفارقة الكبيرة في الحالة الإسرائلية، فمن جهة ترى إسرائيل القانون الدولي عبئاً ثقيلاً يكبّلها لا إنجازاً للحضارة البشرية وصلته بعد حروب عالمية دموية. وفي ذات الوقت توليه هو وصورتها كدولة لا يعلو فيها أحد على حكم القانون اهتماماً هائلاً.

هل تنتهك إسرائيل القانون الدولي إذاً؟ نعم، ولكنها لا تنتهك القانون إلا بالقانون. فمن أجل أن تبرّر إسرائيل لنفسها انتهاك القانون الدولي، فإن عليها التذرُّع بأحكام قانونية محلية مثل مبدأ "سيادة القانون الأساسي الإسرائيلي على ما سواه"، وإن كان هذا القانون مخالفاً لصريح القانون الدولي.

ففي حالة القانون الدولي العرفي -الذي يسود على جميع الدول حتى إن لم توقع على الاتفاقية- فإن إسرائيل تتبناه مباشرةً ولكن مع إسقاط ما يتعارض مع قانونها، وأما في حالة قانون الاتفاقيات فإنها لا توقّع اتفاقية إلا بتصديق الكنسيت، الذي يستحيل أن يصدّق على اتفاقية تُدِينه، وتجعل مسؤوليه عرضة للعدالة الدولية مثل نظام روما المؤسس للمحكمة الجنائية الدولية.

فمثلاً، رفض أحد القضاة الإسرائيليين في قضية مرافعة ضد رئيس الوزراء الإسرائيلي (2005) الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية صراحةً، وفضّل التعامل مع القانون المحلي.

وفي قضية يش دين ضدّ رئيس الأركان في الضفة (2010) حول عدم قانونية نقل السجناء الفلسطينيين خارج حدود الأرض المحتلة (الضفة) لأنه انتهاك صارخ لاتفاقية جنيف الرابعة التي تسري على إسرائيل، اعترف القاضي الإسرائيلي بأن ذلك مخالف للقانون الدولي، إلا أنه أسقط القضية معلناً سيادة القانون الإسرائيلي. وفي حالات أخرى تَهرَّب القضاة من القضية تماماً متذرعين بأن المحكمة غير مخوَّل إليها البت في تلك المسائل، رغم بتّها في قضايا مطابقة أخرى. وفي حالات أخرى يذهب القضاة إلى ما هو أبعد، فيبتّون بمسألة ما دون الإشارة حتى إلى القانون الدولي كأنه غير منطبق في تلك الحالة.

ولرؤية الصورة كاملة، لعلنا ننظر إلى إحدى الدراسات التي أُجرِيَت على 207 حالات أمام المحكمة العليا الإسرائيلية بين عامي 2000 و2005، ووجدت أن القضاة أشاروا إلى القانون الدولي فقط في 75 حالة (36%) متجاهلين القانون الدولي في بقية الحالات.

ضلع الأبارتايد الثالثة

على نحو لافت للانتباه، كانت جنوب إفريقيا أيام الأبارتايد تدّعي الديمقراطية واستقلال القضاء باعتراف عديد من الدول الغربية، إلى حد ما. وكان القضاء يلعب دوراً عضويّاً في منظومة الأبارتايد بحيث يسنّ البرلمان قوانين عنصرية تطبّقها الحكومة ويحميها القضاء باسم القانون.

فلو سألنا هل كان للقانون في جنوب إفريقيا سيادة أيام العنصرية، فالإجابة حتماًً نعم. ولكن إذا كان سؤالنا إن كان للقانون حكم، فالجواب -قولاً واحداً- هو لا. فحكم القانون لا يعني الحكم بالقانون بل إعلاء الحقوق والمبادئ السامية كالمساواة والعدل. وفي الحالة الإسرائلية، كلما وجدنا قراراً من محكمة أو جهة دولية مخولة، رأينا القضاء الإسرائيلي شاهراً قراراته المغالية في التبرير القانوني لرفض قرارات العدالة الدولية، كما كان الحال في رأي محكمة العدل الدولية، والقرارات العديدة لمجلس الأمن التي رفضها القضاء الإسرائيلي.

فلو أخذنا مسألة مصادرة الأراضي وهدم البيوت على سبيل المثال، لوجدنا تكاملاً هائلاً بين هيئات التخطيط الحكومية التي تعمل على تقليص الأراضي الفلسطينية عبر ضمها ما يُسَمَّى "أراضي الدولة" ووضعها تحت تَصرُّف اليهود، والدور الكبير الذي يلعبه القضاء في التبرير والتغطية على هذه الجريمة.

فقد منع القضاء الإسرائيلي الاستيلاء على الأراضي المملوكة بشكل خاص، واحتفت الهسبارا وأذرعها بذلك القرار دولياً، ولكنه ترك الباب مفتوحاً أمام ضمّ كل ما تبقى بحيث يستحيل أحياناً على الفلسطيني أن يأتي بإمدادات الماء والطاقة لبيته لأنه محاط بـ"أراضي الدولة" التي تتوسع يوماً فيوماً، فتضطره إلى ترك دراه "بشكل طوعي".

وفي مئات الحلات، قامت المحكمة العليا الإسرائيلية بحماية هذه السياسات وتبريرها قانونياً، بل واتهام الفلسطينيين الذين يقومون بالبناء بالإجرام والتعامل معهم كمجرمين وإنكار أنّ لهم حقّاً أصلاً. وكما قال أحد القضاة في قضية جابر ضد رئيس الأركان (2010): "لا أدري لماذا ظن المدّعي (الفلسطيني) أن له حقّاً يطالب به في هذه المحكمة". وظني أنه صدق في ذلك، فكيف يُستجار من الظلم بالظالم نفسه؟!

ختاماً، وإن كان "الأعور بين العميان بصيراً"، فإن الادعاء الإسرائيلي بأن قضاءها مستقل ونزيه، هو مطابق لادّعاء دولة الأبارتايد في جنوب إفريقيا. وكما وجد ذلك النظام من يؤيده ويبرر له، وجدت إاسرائيل من يطبّل لها هنا وهناك، إلا أن كثيراً من ذوي النظر السديد يرون نهاية هذين النظامين متقاربة.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِّر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً