تابعنا
بعد مضي 71 عاماً على قيام الكيان الإسرائيلي تبرز الحاجة إلى وقفة مراجعة تكشف أبز المنجزات التي حققها والمخاطر التي تحدق به من أجل تعظيم الفهم للتعاطي معه بما يحقق تحرير الأراضي العربية التي يحتلها.

احتفل الكيان الإسرائيلي مؤخراً بذكرى إنشائه الحادية والسبعين، وهو بحالة من الزهو والعلو الكبير، لشعوره بالوصول إلى أفضل حالاته الاستراتيجية منذ تأسيسه. غير أن حقائق الأمور تكشف عن استمرار وجود تحديات ومخاطر، يمكن أن تتنامى مستقبلياً لافتقاده الأسس التي يرتكز بقاؤه عليها في أمنه واقتصاده وتجمّعه الاستيطاني.

يحاول هذا المقال أن يستعرض بشكل مكثف حالة التموضع الاستراتيجي الإسرائيلي، من حيث إنجازاته الاستراتيجية والمخاطر المحتملة.

تتلخص أبرز ما يعتبره الكيان الإسرائيلي منجزات استراتيجية في تسع نقاط هي:

أولاً: التجمع الأكبر ليهود العالم

نجح الكيان الإسرائيلي في أن يحقق هدفاً صهيونياً مركزياً، عندما أصبح التجمع الأكبر ليهود العالم. فمع احتفالاته بذكرى إنشائه الحادية والسبعين كان يعلن عن وجود نحو سته ملايين و740 ألف يهودي يشكلون نحو 46.5% من يهود العالم.

ثانياً: وضع عسكري متفوق

نجح الكيان الإسرائيلي (بدعم دولي) في معظم حروبه مع الدول العربية، ونجح في الاستيلاء على كل فلسطين وعلى هضبة الجولان. ويصنف جيشه الآن ضمن أقوى جيوش العالم، ويمتلك أسلحة هي الأكثر تقدماً على مستوى عالمي خصوصاً في إطار الدعم والتعاون الأمريكي، ولديه صناعة سلاح متقدمة تنتج معظم أنواع الأسلحة والذخائر. ويمتلك تفوقاً استراتيجياً من خلال امتلاك ما يزيد عن 200 قنبلة نووية. هذا فضلاً عن الدعم العسكري اللا محدود خصوصاً من الطرف الأمريكي.

ثالثاً: نظام سياسي مستقر

على الرغم من المناكفات التي تشوب الساحة السياسية الإسرائيلية، وكثرة الأحزاب وتعدد اتجاهاتها اليمينية واليسارية والدينية، إلا أنها بشكل عام متفقة على الأساسيات والأطر العامة للمشروع الصهيوني. وقادرة على إدارة خلافاتها ضمن منظومة سياسية فعّالة. ولا تزال متمكنة من الإدارة التكتيكية والاستراتيجية للمسار الصهيوني العام؛ مع الحفاظ على مظهر علماني عام مقبول غربياً، والاحتفاظ بجوهر قومي وديني فعال، يمارس كل أشكال العنصرية ضدّ الشعب الفلسطيني.

رابعاً: وضع اقتصادي متقدم

نجح الكيان الإسرائيلي في تحقيق أوضاع اقتصادية متقدمة توازي مثيلاتها في الغرب الأوروبي، وفي إيجاد بيئة جاذبة للاستيطان اليهودي، إذ وصل "الدخل القومي الإسرائيلي" سنة 2018 إلى نحو 369 مليار دولار أمريكي، بينما وصل دخل الفرد السنوي إلى نحو 41,560 دولاراً.

خامساً: تفوق صناعي وعلمي وتكنولوجي: حقق الكيان الإسرائيلي تفوقاً كبيراً في المجالات الصناعية والتكنولوجية المتقدمة Hi-Tech، وهو يُعدُّ من بين البلدان الأولى في العالم في هذه المجالات. وقد وصلت صادراته من التكنولوجيا المتقدمة بكل أشكالها إلى ما قيمته 50.5 مليار دولار سنة 2018، وتشمل المعدات الإلكترونية والكمبيوترات وبرامج الكمبيوتر وخدمات الاتصالات ومعداتها والطيران والمعدات الطبية والذكاء الصناعي... وغيرها.

سادساً: دعم دولي ونفوذ عالمي غير مسبوق

إذ تمكّن الكيان الإسرائيلي من فرض نفسه (بدعم غربي أمريكي) في البيئة الدولية، وعزز من دائرة "شرعيته" وعلاقاته السياسية خصوصاً بعد اتفاقيات أوسلو ومسار التسوية العربي الفلسطيني معه. وحافظت "إسرائيل" على تموضعها كدولة فوق القانون، تمارس كل أشكال الاحتلال والاضطهاد والحصار ضدّ الشعب الفلسطيني، دونما حسيب أو رقيب، ويقف خلفها "الفيتو" الأمريكي والدعم الغربي لأي محاولات لفرض قرارات عليها. وأمكنه بذلك تجاوز مئات القرارات الدولية الداعمة للحق الفلسطيني وتجاهلها. كذلك فإن الكثير من دول العالم أخذ يعدُّ العلاقة مع "إسرائيل" مدخلاً للرضا الأمريكي.

سابعاً: إدارة مسار التسوية السلمية

نجح الكيان الإسرائيلي في توظيف اتفاقيات التسوية السلمية، وخصوصاً اتفاقيات أوسلو مع الجانب الفلسطيني، لصالحه. فقامت عشرات الدول بعمل علاقات سياسية مع "إسرائيل"، وتمكّنت "إسرائيل"من تحييد القوى العربية الأساسية من دائرة الصراع، كما تمكّنت من تحييد جزء كبير من القوى الفلسطينية التي التزمت بمسار التسوية. في الوقت الذي تابعت فيه مشاريع التهويد والاستيطان في الضفة الغربية وخصوصاً في القدس، بحيث أفرغ "حل الدولتين" من محتواه، ليحاول الصهاينة إغلاق الملف الفلسطيني، وفرض ما يُسمى "صفقة القرن" بالتعاون مع الولايات المتحدة.

ثامناً: تقزيم المشروع الوطني الفلسطيني وتحويل السلطة الفلسطينية إلى أداة وظيفية

فالسلطة الفلسطينية التي نشأت على أمل أن تتحول إلى دولة فلسطينية مستقلة على حدود الرابع من يونيو/حزيران 1967؛ تحولت مع الزمن إلى كيان وظيفي يخدم أغراض الاحتلال أكثر مما يخدم تطلعات الشعب الفلسطيني. ويصرف ميزانيات ضخمة على أجهزته الأمنية التي تمارس التنسيق الأمني مع الاحتلال وتطارد قوى المقاومة، بينما تربط عجلتها الاقتصادية بالاحتلال نفسه.

تاسعاً: اختراق البيئة العربية والإسلامية

وخصوصاً فيما يتعلق بالعلاقات الرسمية المعلنة وغير المعلنة مع البلدان العربية والإسلامية.بل إن العديد من البلدان أخذت "تهرول" في مسار التطبيع وبناء العلاقات، وتتجاوب مع "صفقة القرن" قبل أن يُقدم الجانب الإسرائيلي أياً من الأثمان المفترضة للتسوية السلمية.

في المقابل، يتعرض الكيان الإسرائيلي إلى عدد من التحديات والمخاطر التي يمكن أن تتطور إلى "تهديد وجودي" على المديين المتوسط والبعيد، ستفضي إلى زواله في نهاية المطاف.

أولاً: صمود الشعب الفلسطيني على أرضه وتنامي أعداد الفلسطينيين في فلسطين التاريخية

بحيث تجاوزت أعداد الفلسطينيين أعداد اليهود في هذه الأيام، ويتوقع أن تزيد أعداد الفلسطينيين عن أعداد اليهود بنحو 300 ألف نسمة خلال السنوات الخمس القادمة. هذه "القنبلة الديموغرافية" تشكل تحدياً كبيراً للمشروع الصهيوني ومستقبل الصراع على هوية الأرض المحتلة.

ثانياً: تنامي قوة المقاومة الفلسطينية.

بالرغم من التزام قيادة منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية بمسار التسوية، إلا أن قوى المقاومة الفلسطينية حافظت على أغلبية شعبية معارضة لمسار التسوية واتفاقيات أوسلو. وتحوَّل قطاع غزة إلى قلعة للمقاومة المسلحة مع تطور إمكاناته القتالية وقدراته الصاروخية، ووجود أكثر من ستين ألف مقاتل، وخوضه ثلاثة معارك بطولية مُشرفة ضدّ العدوان الإسرائيلي، وصموده في وجه الحصار على مدى 12عاماً، وتحوله إلى حالة إلهام عالمية. هذا فضلاً عن الأداء البطولي للمقاومة في الضفة على الرغم من الصعوبات الكبيرة التي تواجهها.

ثالثاً: استمرار البيئة الشعبية العربية والإسلامية المعادية لـ"إسرائيلوفشل"إسرائيل" في التحوّل إلى كيان طبيعي في المنطقة

مع بقاء معظم دائرة الاختراق التطبيعي الإسرائيلي في الإطار الرسمي الخجول والمفروض على شعوب المنطقة. ما يعني أن أي حالة تغيير في المنطقة تعبّر عن تطلعات الشعوب، ستعيد الكيان الإسرائيلي إلى المربع الأول ليبقى محاصراً في بيئة معادية، ستتحول إلى خطر وجودي مع تطور موازين القوى في المدى الزمني الوسيط والبعيد.

رابعاً: أزمة مسار التسوية

على الرغم من نجاح الطرف الإسرائيلي في إدارة مسار التسوية لصالحه طوال الفترة الماضية؛ فإن سلوكه السياسي الجشع والمتعجرف قد أغلق مسارات الوصول إلى اتفاقات "معقولة" وفق معايير الأطراف الفلسطينية والعربية المستعدة لذلك. ويفتح فشل مسار التسوية المجال أمام الشعب الفلسطيني للتوحد من جديد أمام خيار المقاومة، وإلغاء المكاسب الإسرائيلية التي سبق تحقيقها.

خامساً: استمرار المخاطر الخارجية على الكيان الإسرائيلي

بما في ذلك "الخطر الإيراني"، وقوى المقاومة في المحيط الجغرافي لفلسطين، واحتمالات عودة موجة جديدة من الثورات في المنطقة، وهو ما يَعده الكيان الإسرائيلي خطراً استراتيجياً. كما أن البيئة الشعبية الداعمة للمقاومة حاضرة بقوة في محيط فلسطين وفي البلدان العربية والإسلامية.

سادساً: أزمات المجتمع الصهيوني

على الرغم من قدرة المجتمع الإسرائيلي الصهيوني على استيعاب مهاجريه من أكثر من مائة بلد، ممن يتحدثون عشرات اللغات، ونجاحه النسبي في إدارة اختلافاتهم فإن ثمة شروخاً في البيئة الصهيونية يمكن أن تتسع، خصوصاً عندما تتراجع الأوضاع الأمنية وتتردى الأحوال الاقتصادية، فتتزايد الرغبة بشكل واسع في ترك "أرض الميعاد" إلى مناطق أفضل وهو ما يعرف "بالهجرة العكسية".

كما أن ثمة فروقات حقيقية متعلقة بالأصول الشرقية والغربية لليهود، وبالانتماء والالتزام الديني أو العلماني. فضلاً عن تفشي مظاهر الفساد والانحلال والرغبة في حياة الرفاهية والمتعة، وتراجع نوعية "المقاتل" الإسرائيلي، واندثار "جيل التأسيس".

سابعاً: محافظة فلسطينيي الخارج على هويتهم الوطنية

وبقاء أكثر من ثلاثة أرباع فلسطينيي الخارج مقيمين في البيئة الاستراتيجية المحيطة بفلسطين المحتلة، ورفضهم لكل أشكال التوطين، وتطويرهم لمؤسسات وجمعيات تؤكد حقهم في العودة وتحرير فلسطين.

ثامناً: تناميالاتجاهات الشعبية المتعاطفة مع الحق الفلسطيني على المستوى العالمي

في المقابل، ثمة تزايد في النظرة الشعبية السلبية للكيان الإسرائيلي حتى في الولايات المتحدة والبلدان الغربية، كذلك فإن هناك تصاعداً وتنامياً لقوة حركات مقاطعة إسرائيل البي دي أس BDS وهو ما يمثل قلقاً متزايداً لدى الجانب الإسرائيلي.

في نهاية المطاف، فإن حالة "العلو" والطغيان التي يشهدها المشروع الصهيوني لم يسبق لها مثيل؛ لكن مجموعة المخاطر والتحديات التي يواجهها كبيرة وحقيقية، ويمكن أن تبدأ بقلب الموازين في المدى الوسيط المنظور.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً