تابعنا
فشلت النخب العراقية في تسوية الإشكالات الأساسية للنظام السياسي الذي جاء بعد احتلال العراق في 2003، وحتى بعد إقرار الدستور العراقي في عام 2005. وقد استمرت هذه الإشكالات في إعادة إنتاج نفسها عبر ممارسات مختلفة عبر ما يمكن تسميته سياسة "تدوير الأزمات".

فشلت النخب السياسية العراقية في تسوية الإشكالات الأساسية لشكل النظام السياسي الذي جاء بعد احتلال العراق في 2003، وحتى بعد إقرار الدستور العراقي في عام 2005. وقد استمرت هذه الإشكالات في إعادة إنتاج نفسها من خلال ممارسات مختلفة عبر ما يمكن تسميته سياسة "تدوير الأزمات".

يمر تاريخ 9 أبريل/نيسان من كل عام كأسوأ يوم في التاريخ العراقي الحديث، على إثر سقوط بغداد على يد القوات الأمريكية وحلفائها. تاريخ أصبحت ذكراه مراجعة سنوية لقياس مدى الدمار الذي حصل منذ 17 عاماً، ولا يزال مستمراً في ظل هواجس تُنبئ بأن قادم المستقبل لن يختلف عن ماضيه.

بعد 17 عاماً، وصلت البلاد إلى مرحلة حرجة من الانهيار الأمني والتدهور الاقتصادي، فضلاً عن أزمات حرجة حالية جرّاء جائحة فيروس كورونا العالمي، مقابل ضعف القطاع الصحي العراقي، وهبوط أسعار النفط الذي يهدد بانهيار اقتصاد البلاد إذا لم يُتدارك الأمر عاجلاً.

يُرجع العراقيون سبب الانهيار الحاصل في البلاد إلى فشل النخبة السياسية الحاكمة التي تواجه إشكالية في شرعيتها السياسية، وغياب هوية المشروع الوطني الذي يؤطر السلوك السياسي لجميع القوى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، سواء على مستوى العلاقة البينية لمؤسسات النظام السياسي، أو على مستوى علاقة هذا النظام بالمجتمع، لضمان قدر من الاستمرارية والتوازن في مواجهة تحديات التفكك وإعادة التشكيل وتداعياتهما.

إنّ تطوّر الأحداث واستمرار الأزمة السياسية في العراق، يثيران اليوم قضية جوهرية في بلدان الشرق الأوسط التي تمرّ بتقاطعات تتراوح بين نموذج الدولة الديمقراطية الدستورية، والنموذج الإيراني الذي يسعى لتطبيق الدولة وفق منهج ولاية الفقيه.  

ونتيجة لهذه التناقضات الحادة في اتجاهات مكونات النظام، يصطدم مسار العملية السياسية بحائط يتكون من ثلاثة مجتمعات غاضبة تضررت بشدة من هذا النظام. فالأكراد يشعرون أنهم خارج الحسابات الوطنية العراقية ومهددون بعدم دفع مخصصاتهم المالية. أما السُّنة فلا يزالون منهَكين بعد سنوات من قمع الحكومة المركزية، وأعباء الحرب ضد تنظيم داعش الإرهابي، وسيطرة مليشيات الحشد الشعبي. بينما يشعر الشيعة بالغضب من عجز الحكومة عن توفير الخدمات الأساسية، وسطوة أحزاب السلطة على موارد البلد وتحويلها لإيران.

هذا الواقع أوجد حالة من الغضب الشعبي، الذي تحول إلى احتجاجات عارمة اجتاحت بغداد وعدداً من المحافظات العراقية وشلت العملية السياسية منذ شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، واضطر رئيس الوزراء عادل عبد المهدي إلى الاستقالة من منصبه لامتصاص غضب الشارع، ليدخل العراق في فراغ دستوري حقيقي ووضع سياسي معقد وخطير، بعد أن تحولت هذه الحكومة إلى حكومة تصريف أعمال، وعجز الأحزاب عن الاتفاق لاختيار رئيس حكومة لمدة خمسة أشهر، في ظل معادلة محلية وإقليمية معقدة.

إن مصطلح الانسداد السياسي Political Occlusion يعني بقاء النظام السياسي مغلقاً على مجموعة محدودة من المكونات فقط. فيرتبط الوصول إلى ذلك النظام بالولاء للدوائر المحيطة بمجموعة السلطة وأصحاب القرار، ويبقى مستقبل البلاد رهيناً بتوجهات هذه المجموعة التي تشكل جوهر النظام. وسواء تغيرت تشكيلة المجموعة بمرور السنين، أو توسّع عددها أو انخفض، فإن وجودها يظل ثابتاً، ولا يمكن تخطيها للوصول إلى السلطة.

وفي حالة العراق، فإن الطبقة السياسية تحاول تثبيت نفوذها في قلب الدولة بصورة أكبر. ولا تعتقد أن النظام السياسي الذي ولد عام 2003 قد وصل إلى حالة من الفشل تهدد وجود العراق كدولة. لتعود النخبة الشيعية الحاكمة في التاريخ نفسه 9 إبريل/نيسان 2020، للاتفاق على تكليف "مصطفى الكاظمي" رئاسة الوزراء، بعد موافقة الأحزاب السنيّة والكردية. ويعتبر "الكاظمي" من صفوف العائلة السياسية الحاكمة وأحد رجالاتها وغير بعيد عنها.

عند تتبُّع مسار تطوُّر العلاقة بين الدولة والمجتمع العراقي في ظل حالة الانسداد السياسي الحالية، يمكن التنبؤ بتصاعد احتمالية انهيار الدولة ونظامها السياسي، لكن على المستوى البعيد نسبياً، لأن انهيار النظام الحالي في العراق سيكون حتماً مفتاحاً لأزمات إقليمية، وربما عالمية.

ومن المرجح أن يعطي الدعم الدولي زخماً جديداً في عملية إعادة تشكُّل النظام السياسي في العراق، وتلعب الولايات المتحدة هذا الدور في عملية الدعم الدولي، إذ عبر الرئيس الأمريكي دونالد ترمب عن هذا بشكل صريح، حينما قال في تغريده له على حسابه الرسمي في تويتر: "حان وقت التحرك لملايين العراقيين الذين يريدون الحرية ولا يرغبون في الخضوع لسيطرة إيران". وهو أمر يُفهم منه بأن الإدارة الامريكية عازمة حالياً على إحداث تغيير حقيقي في وجهة النظام السياسي العراقي.

ويمكن تلخيص تحدِّي إعادة تشكيل النظام السياسي بثلاثة أسباب جوهرية، هي: وجود مصالح شخصية مبنية على النظام القائم، ولا يمكن التفريط بها بسهولة في الوضع الراهن. السبب الثاني، السلطة والأحزاب الحاكمة ومليشياتها أثبتت أنها بصدد استخدام كل الوسائل الدموية منها من أجل الحفاظ على هذه المصالح. وثالثاً، حيادية جزء كبير من المجتمع العراقي. وأقصد حيادية المكون السني والمكون الكردي، وهو ما تبدَّى في عدم انخراطهما الكبير، على سبيل المثال في الاحتجاجات الشعبية التي كانت تطالب بتغير الطبقة السياسية للبلاد.

لذا يبدو أن السيناريو المرجح قد يُفضي إلى استمرار النظام السياسي مع إجراء بعض التعديلات عليه، سواء كانت كبيرة (كتعديل قوانين أساسية أو حتى مواد دستورية) أو طفيفة (كقوانين أو وجوه أو تحالفات). أما استبدال نظام آخر بالنظام الحالي فلا يبدو أنه قابل للتحقيق حالياً، في ظل المعادلات السياسية القائمة في المنطقة التي تعمل فيها إيران وقوة سنية أخرى كالسعودية والإمارات على تقويض تطلعات الشعوب بالديمقراطية.

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.   

الرئيس العراقي برهم صالح أثناء تسليمه لخطاب التكيف لرئيس الوزراء المعين حديثاً مصطفى الكاظمي (Reuters)
TRT عربي
الأكثر تداولاً