تابعنا
لا يشكل التاريخ مجموعة من والأحداث للحفظ والمذاكرة، بل الوعاء الثقافي والفكري والفلسفي لتطور المجتمعات وأنسنتها؛ لذلك فإن قراءة التاريخ لا تعد ترفاً فكرياً بل هو صلب البناء الحضاري.

هناك ماضٍ نطلق عليه تاريخ، وليس كلّ حاضر يصبح تاريخاً؛ فالتاريخ يُصنع من وعي البشر بزمنهم الذي يعيشونه ربطاً مع الماضي بالنقد والتحقيق، واليوم, ونحن نعيش تداعيات المدّ الثوري، الذي حدث في مجتمعاتنا منذ أواخر العام 2010، وما زال يجري بعنفوانه في السّودان، وفي ظلّ الاضطراب الاقتصادي والسياسي على المستوى العالمي يحقّ لنا التساؤل: أين نحن من هذا الوعي؟ وما موقعنا من التاريخ؟ وما هي الأسئلة الكبرى التي في وسعنا استخلاصها لتشكيل المستقبل؟

وليتضح مقصدنا من هذا المقال، نشير إلى أن أهم نظريات تفسير التاريخ، تولّدت من الثورة الفرنسية 1789، وثورة العلم التجريبي في أوروبا خلال القرن التاسع عشر؛ فظهرت جدلية الأفكار عند هيجل، التي طورتها الماركسية ومدارسها باسم المادية التاريخية في ظلّ صعود النظام الرأسمالي، وسيرورة الحركات الثورية، بداية من ثورات 1848 التي سُميت "بثورات الربيع الأوروبي"، مروراً بكومونة باريس 1871، وصولاً للثورات الشيوعية في الثلث الأول من القرن العشرين.

لا يُقرأ التاريخ عندنا بمنظور المسؤولية والمساءلة وكأننا سقطنا في فجوة زمنية على مستوى الحدث والموضوع والمنهج.

إيمان النمر

وفي مثل تلك الأحداث العصيبة يُستدعى التاريخ للمساءلة والتفسير، ويتجاوز دوره التثقيفي والمدرسي، لكن ما نراه يحدث الآن، هو إعادة إنتاج دوائر الصراع التي دارت منذ ما يقرب 150 عاماً، وفيما يبدو، غالباً لا يُقرأ التاريخ بمنظور المسؤولية والمساءلة، وكأننا سقطنا في فجوة زمنية على مستوى الحدث والموضوع والمنهج، وبعيداً عن جلد الذات الذي نمارسه منذ عقود، فإننا حين نلاحظ نوعية الخطابات ومجمل إنتاجية المعرفة المتداولة في المجال العام الآن، نجدها ليست على قدر الحدث، وكأن ثورات2011 قد ارتدت إلى ثورة 1919 مثلاً.

ومن يطّلع على تاريخ الفكر الإصلاحي، خلال الفترة من منتصف القرن التاسع عشر وحتى ثلاثينات القرن العشرين، سيندهش من تطابق نوعية القضايا المثارة، وكيفية تناولها كما اليوم، والتي تبلورت في سؤال: لماذا تقدم الغرب وتخلفنا نحن؟ ولم يكن في جعبة تفكيرنا خلال السنوات الماضية سوى ترديد توفيقية محمد عبده بين الدّين والعلم، ودرواينيّة فكر سلامة موسى، وسقطات الإسلام السياسي، ومعارك طه حسين التي لا تنتهي، والنقاب الذي تمردت عليه السيدة هدى شعراوي، والثورة التي احتضن فيها الهلال والصليب.. إلخ، وكأن مجموعة من الأصدقاء والجيران قد التقوا في نزهة ليلية بعد التعب، ليتذكروا ماضيهم وينتشوا باللحظات السعيدة، أو يعيدوا صياح الأسلاف.

وتناول التاريخ على هذه الشاكلة لا ينمّ عن أي وعي به ولا برهانات الواقع المعيش وطبيعة التحديات التي يمر بها المجتمع على المستويين المحلي والعالمي، ويُرد ذلك بشكل أولي إلى عملية الإفقار الممنهجة للوعي الجمعي من خلال نُظم التعليم المختلة، وما يستتبعه من تهميش حقل الإنسانيات، وتناول نظرياته كقوالب جامدة مستوردة من الغرب "المتقدم" لا تُنتقد ولا تُختبر، والتاريخ مجرد سردٍ حدثي تقتصر وظيفته على خدمة أيدولوجية النظام، بمسمّى تنمية الحسّ القومي والانتماء للوطن، أو الدّين على الوجه الآخر، ثم هو سير أموات وأعلام معنونة بتواريخ كثيرة، يُثقَل الطالب بحفظها، بدون عناية بربطها وفهم منطق سريانها، وحين يتخرج يردد (أكليشيه) " كل التاريخ مزيف" فيما عدا ما يخص تراثه الديني أو انحيازه السياسي، أما كل محاولة لتصحيح الزّيف هي مؤامرة!

وإذا نظرنا إلى قوى إنتاج المعرفة من أفراد ومؤسسات، سيتبين مدى جدبها الفكري، وعجزها عن بلورة أية رؤية تفسيرية؛ لأنها تفتقد شروط إنتاج نسق معرفي متكامل، أساسه النقد والتنظير والقدرة على التركيب، والفصل ما بين دقّة التخصص والفهم الكلي للسياق، سيما أن الحقل الأكاديمي على مستوى العالم، قد بدأ في التدهور منذ ثمانينات القرن العشرين، وكاد يندثر مفهوم المثقف أو الأكاديمي الموسوعي، وقد تحوّلت المعرفة إلى مشروعات استثمارية وسلطوية، رُوّجت من خلالها، نظريتا "صدام الحضارات" و " نهاية التاريخ" على مدى العقود الثلاثة الأخيرة، بما يعني أن البشرية قد توقفت عند هذا الحد من التطوّر، ولم يعد سوى الصراع وتقسيم العالم إلى قوىً متقدمة وأخرى متخلّفة.

أغلب قراءات النخبة المثقفة للتاريخ بما فيهم المؤرخين مبنيةً على منظور اختزالي وعشوائي ونفعي.

إيمان النمر

وبتلك المناسبة، أتذكر نقاشي العام 2012، مع أحد أساتذة التاريخ بإحدى الجامعات المصرية، وكان موضوعه ضرورة تغيير مناهج المعرفة التاريخية وربطها بحقول المعرفة الأخرى، إذ لو نظرنا إلى مدرسة الحوليات الفرنسية التي تأسست أواخر العام 1929 في ظل الأزمة المالية الطاحنة التي اجتاحت العالم، نجدها قد شدّدت على أهمية الوعي بالزمن التاريخي ودوره في إنتاج الحاضر، من خلال فهم ديناميات الحراك الاجتماعي وآليات تطوره، ما جعلها تحيي مفهوم التاريخ الشامل الذي كان رائده ماكس فيبر (1864-1920)، بما يستلزم التداخل والتكامل بين دراسة التاريخ وحقول الاقتصاد والاجتماع والتحليل النفسي والجغرافيا واللغة، إضافةً إلى دراسة تاريخ الدساتير وأشكال السلطة والحكم.. إلخ، بغية كسر نمطية التاريخ السّردي وتجاوز جمود الوثيقة؛ فكان الجواب: "أننا عالم ثالث" وكأن العالم الثالث -مع تحفّظنا على التوصيف- ليس له حق مساءلة تاريخه وإنتاج فكره الخاص.

وكي نكون منصفين وتاريخيين في تناولنا لم تُعدَم المنطقة العربية من بعض المساهمات الجادة في محاولة تفسير تاريخها الحديث بشكل منهجي، وأهمها إسهامات بعض اليساريين من مصر والمشرق العربي فترة الستينات إلى بداية الثمانينات، وإن لم يتحرّوا من التعصّب النظري، لكن دائماً ما تأتي مشكلات التمويل والتنظيم والتكامل الفكري؛ إذ أن هذه الجهود تظلّ جهود فردية مشتتة ومبتورة، ليس لها سمة مدرسية أو منهجية مستمرة ذات بناءٍ تراكمي متماسك، وفي ظل الدكتاتوريات السياسية ورواج أنساق الفكر المتجمدة، غالباً ما يكون هؤلاء الأفراد كبش فداء.

إذن، والحال هكذا، سنجد أغلب قراءات النخبة المثقفة للتاريخ -بما فيهم المؤرخين- مبنيةً على منظور اختزالي وعشوائي ونفعي؛ نفعيةً لا تخلو من التضليل والعجز عن إنتاج نسق معرفي جديد؛ وذلك لأن قوى الصراع نفسها باختلاف انتماءاتها فقيرة فكرياً.

وبناءً عليه، سنجد التاريخ مقروءاً من عدة تيارات لكن مجملها صفر؛ فهو إما تاريخ قومي، وليست الإشكالية في قوميته، وإنما في النزعة الشوفينية والتضليلية التي يتضمنها، أو تاريخ سردي وعظي يعامل الزمن على أنه سرمد، وما يعترينا من ابتلاءات هي علامة لاقتراب يوم الحساب، أو تاريخ تخيُّلي مصطنع يسرد يوتوبيا المجد؛ المجد التنويري أو العسكري أو الديني، فجميعهم سواء في ذلك.

يتوجب على علماء السياسة والاقتصاد والاجتماع والتاريخ عمل جهد بحثي متداخل عن تاريخ الانتفاضات والثورات في مجتمعاتنا والكشف عن قواها المحركة وكيفية فعاليتها.

إيمان النمر

ولا يفوتنا الإشارة إلى قراءة التاريخ من منظور فلسفة ما بعد الحداثة، وهي دراسات قام بها بعض الأكاديميين الغربيين ومن أصول عربية، لإعادة تقييم الإرث الحداثي في منطقة الشرق الأوسط، لكنها قراءة لا تخلو من تعسف النظرية، وتفسير الحدث بما لا يحتمل، وهذا شرح يطول.

وما نود الإشارة إليه في الختام؛ أن عبء الحدث التاريخي لا يقع على كاهل المؤرّخ فقط، وإنما يقتسم فيه عالم الاجتماع بصفة رئيسية، وهو ما يشدّد عليه ايمانويل فالرشتاين، الذي يرى أن علماء الاجتماع عادة ما يقعون أسرى "التاريخ المتحرك على السطح"، وهو ما يفسّر إعادة إنتاج الرؤى الاختزالية التي تنظر إلى الظاهرة الاجتماعية بدون استبصار تبدّلاتها التاريخية.

وعلى مستوى التنظير السياسي؛ فالشاهد للعيان الآن أن نظريات الشعبوية هي مجال الحديث في العالم، فبدلاً من اختزال الحدث الثوري في أنه "ثورات بلا قائد"، يتوجب على علماء السياسة والاقتصاد والاجتماع والتاريخ عمل جهد بحثي متداخل عن تاريخ الانتفاضات والثورات في مجتمعاتنا والكشف عن قواها المحركة وكيفية فعاليتها، ومقارنتها اليوم بآليات الرقمنة، قبل أن نتخذ نظريات الشعبوية "موضة" فكرية.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي. 

TRT عربي