تابعنا
من انفجار بيروت الذي دمّر جزءاً كبيراً من المدينة نتيجة الإهمال، إلى الطرق والجسور التي يسعى النظام المصري لبنائها وتهدد بعض المناطق الأثرية، تجرية عملية ممنهجة لتشويه المجال العمراني في المدن العربية بما يخدم أجندة الأنظمة الأمنية والاقتصادية.

لم يكن انفجار بيروت المفجع والمروّع الذي تابعه الملايين مشهد حرب كالتي عرفتها المدينة على مدار عقود الحرب الأهلية ثم حرب 2006 وضرب الضاحية الجنوبية. 

كان مشهد بيروت مشهد إهمال لا يخلو من شبهة فساد، بحسب المتوافر حتى الآن من معلومات. وقد تسبب ذلك في إحداث تغييرات كبيرة في العمران، وأدى إلى ترحيل السكان. هذا الأمر يدفعنا إلى التأمل في سياق المشهد العمراني في الوطن العربي.

فالمتابع لمشهد التخطيط العمراني اليوم في العالم العربي سيرى أيضاً آثاراً من الترحيل والهدم والخسائر المادية تطال الملايين، وسيظنّ أن ما يجري مجرد سياسات عمرانية تقدّم رأس المال الدولي والاستثمار العقاري الأجنبي على روح المدينة وطابعها المميز، أو قد يعتبر ما يتم مشروعات تنافي قواعد التجميل وتنشر القبح فينتقد الشكل لا السياسات.

لكن ما يجري في المجال العمراني العربي منذ فترة ليست بالقصيرة هو حرب حقيقية.

فالحرب ليست فقط قرع الطبول ولا صوت المدافع ولا قصف الطائرات، فالحروب بنتائجها.


إنها هذا الظرف التاريخي الذي ينتج عنه إبادة، ونيران كثيفة من الدعاية المنظمة، وحشد، وفرض شرعيات بسلطة السلاح، وتحريك ممنهج للكتل السكانية، وتغيير واضح لعمران المدن، وقصف متعمَّد للمواقع التاريخية ذات الرمزية، واستحواذ على الأرض، وتفاوضات ومقايضات على خط الحدود، وتوظيف الدمار لعقد صفقات إعادة إعمار.

كل ذلك قد يحدث من غير إطلاق رصاصة واحدة عبر إطلاق مشروعات تخطيط المدن تحت سقف السيادة والهيمنة على الأرض، وبتحريك رؤوس الأموال بين البلاد واستجلاب مستثمرين دوليين لأغراض الكسب المادي، دون أي اعتبار للنسيج الثقافي أو الفضائل المجتمعية أو المصلحة العامة.

تلخيص القصة ببساطة يكمن في ما ذكره كارل شميت المفكر السياسي البارز في كتابه الأهمّ "قانون الأرض".

ففي نظر شميت لا تتجلى السيادة في احتكار السلاح ولا البطش فحسب، ولا ترتب فقط الحقّ في إعلان "حالة الاستثناء" والإطاحة بالحقوق الدستورية للأفراد في الحالة التي يقرّر فيها النظام أن الدولة تتعرض لخطر وأن عليه الاستحواذ على القوة كاملةً لحماية وجودها كما ذكر في كتابه "مفهوم السياسي"، بل تتجلى السياسة والسيادة بالأساس في السيطرة على الأرض، وهو ما ذكره أيضاً في تعريف المناضل، فما يميزه هذا الارتباط بالأرض والحدود والرغبة في تحريرها مع الحفاظ على منظوماتها الاجتماعية والقيمية، أما المجرم الخارج عن القانون فيريد الهيمنة على المساحات، ولا يبالي إن تهدمت البنى الثقافية والاجتماعية والأخلاقية.

والأرض هنا مقصودة بمعناها الحقيقي المادي لا المجازي المرسوم على الخرائط، أي بمعنى إقليم الدولة داخل حدودها، ويدخل في ذلك ضمناً مادة الأرض والحيز والمساحة. وسيطرة الدولة هناك تعني أن تُحكِم قبضتها على هذه الأرض وعلى كل شبر فيها.

ولم تكن السياسة أظهر في مظهرها "السيادي" هذا ممَّا نراها عليه اليوم، ليس في مناطق النزاع المسلَّح بل في قلب المدن ومنطق تخطيطها وتغيير ملامحها، وإن كانت هذه المدن لا تشهد حرباً بالمعنى المألوف للكلمة.

ومن السهل أن يستعرض الإعلام قوة الأنظمة، أو يلمّع صور القادة، وأن تصدح الأناشيد الوطنية، وأن يتم تزيين حتى أشد السياسات الاقتصادية بطشاً بوعود الانفراجة القادمة بعد عام أو خمسة أو عشرة.

لكن من الصعب إخفاء الاستحواذ على الأراضي، ومجازر تخطيط المدن حين تقوم بإزالة أحياء كاملة بدعوى أنها من "العشوائيات"، وتسفر شبكات المصالح التي تعيد تشكيل المدينة عن وجهها فتطرد البسطاء من جزر النيل لكي تبني منتجعات لها ساحل ليخوت الأغنياء.

لو تَتبَّعنا إرهاصات هذه الحرب الدائرة فسنجدها للطرافة تبدأ في مطلع العشرية الأولى من الألفية على الساحة العربية في البحرين، حين أفلحت السلطات البحرينية في تفريق تظاهرات دوار اللؤلؤة مطلع 2011، ثم بعدها بشهر واحد قامت برصف الميدان وتحويله لتقاطع، مثلما قامت من قبل ببناء جسور فوق الطرق التي تمر بجوار القرى الشيعية لتجنُّب قطع الشوارع خلال التظاهرات قبلها بسنوات. تلك كانت حلولاً تخطيطية سهلة لإعادة تشكيل المدينة بما يمنع الاحتجاجات الشعبية المشروعة والمستحقة.

في القاهرة بعد مذبحة رابعة بأعوام تكرر السيناريو، فتم تغيير اسم الميدان، والتسمية قوة وهيمنة وذاكرة، ثم مؤخراً تم بناء كوبري قطع الميدان وغيّر معالمه، وبذلك اختفى ميدان رابعة. إنها ألاعيب محو الجرائم وهواية طمس التواريخ.

بل إن شئت فقارن تخطيط أكبر عاصمتين في المنطقة كمثال: القاهرة وإسطنبول، على ما بينهما من تفاوت واضح في تاريخ المسار الديمقراطي وطبيعة العلاقات المدنية العسكرية. في الأولى يتم بناء شبكة من الكباري والجسور، ونزع الأراضي من أصحابها بدعوى وقوعها في حيز تخطيط الطرق السريعة، ويتم إعادة توطين الفقراء خارج المدينة في مشروعات سكنية تبلغ قيمتها معشار قيمة أراضي "العشوائيات" التي أُخرِجوا منها، والتي تقع في أفضل بقعة في مواقع مركزية بعد اتساع المدينة، وقد كانت تقع سابقاً في الأطراف.

بل شهدنا الاستحواذ على منطقة ماسبيرو وهدم منطقة عين الصيرة وكلتاهما لم تكونا من العشوائيات، ومنذ أيام جرى تجريف مقابر ذات معمار مميز ترجع لأول القرن العشرين يسكنها رُفات شخصيات علمية ودينية وأدبية، وتم اختراق منطقة صحراء المماليك التاريخية. وكان هناك خطة عام 2017 في جهاز التنسيق الحضاري لتحويل صحراء المماليك إلى منطقة خضراء، وترميم الأضرحة المتناثرة لتكون مزاراً، لكن يتم بناء طرق سريعة وكوبري آخر في تلك المنطقة التاريخية التي تستأثر بنسبة معتبرة من التراث المعماري المملوكي، بما يهدد منطقة هامة للآثار الإسلامية يعرفها علماء الآثار والعمارة الإسلامية حول العالم.

والسؤال الذي يثور من قبل المخططين حين نستشكل ونحتجّ هو: هل نترك العاصمة تتداعى تحت وطأة كثافتها السكانية، أم ينبغي تطويرها وحل مشكلاتها المزمنة؟

لكن السؤال الحقيقي إنما يكون سؤال البدائل الممكنة والتخطيط البديل، والاستقصاء عن الفلسفة التي تقف وراء هذا "التطوير العمراني"، وهي بوضوحٍ فلسفة المباغتة وتجاوز الحوار المجتمعي برسومات هندسية جاهزة تهبط على الأرض فتأكل الأخضر واليابس، يحكمها منطق النفاذية وسرعة الاختراق والانتشار، وإزاحة وإزالة أي كتل سكانية تقف في مواجهة تلك المشروعات التي يعلن عنها قبل التنفيذ بأيام، ثم تبدأ الجرافات في العمل.

في إسطنبول سنجد تغول رأس المال على القطاع العقاري ورغبة الدولة في جذب الاستثمارات الخارجية، خذ مثالاً حي سولوكلو القريب من الفاتح، تم نقل السكان الفقراء من الغجر إلى أطراف العاصمة، وبناء مشروعات سكنية للطبقات الأغنى، وفي أطراف كاديكوي ما زالت البيوت الفقيرة المتهالكة تزاحم الكتل الخرسانية للأبراج الحديثة والمجمعات السكنية المسوَّرة ومراكز التسوُّق المطلة على الطريق السريع.

نعم، المقاولات في القاهرة ساهم في إدارتها الهيئة الهندسية للقوات المسلحة الشريك الأساسي اليوم في تخطيط القاهرة، بل والإسكندرية وغيرها من المدن، وشق الطرق والجسور ومد شبكات مواصلات متنوعة لا يقدر على رسومها كل المواطنين، في حين كانت بلدية إسطنبول والوزارات المعنية هي من يخطط وينفذ، لكن منطق العولمة النيوليبرالية الاقتصادية هو الحاكم، وهو للإنصاف لا يقتصر على دول حوض المتوسط ولا مدن العرب أو الشرق الأوسط، بل يتعداه إلى موجة عاتية من هيمنة القطاع المصرفي والعقاري الدولي في ظل عولمة اجتاحت عواصم الغرب كما أغرقت عواصم آسيا والشرق الأقصى، وهي موجة لا تخلو من فساد كبير وترتيبات دولية منظمة.

ليس بمستغرَب إذاً هذه الأدبيات الصاعدة عن سياسات الفصل السكاني (مثل الفصل العنصري)، التي ستجد مادة دسمة في السنوات القادمة لو اختبرت عن قرب نشوء المدن الجديدة من العدم في منطقة العلمين الجديدة شمال شرق البلاد والعاصمة الإدارية الجديدة في مصر، وما سنشهده من صعود أحياء ضخمة من العدم أيضاً لو تم تنفيذ القناة الجديدة المزمع شقها في إسطنبول والتي ما زالت في مراحل التخطيط الأولى.

قد يحجب غبار الصراع الجاري بين الدول المتنازعة في الشرق الأوسط هذه التشابهات بينها في السياسات العمرانية، فتبقى المدن ساحة منسية للتنازع على القوة والهيمنة، رغم أن أراضيها هي محل اشتباكات من نوع آخر، وفي الحقيقة فإن تلك التشابهات في السياسات العمرانية لأطراف تظهر عداوتهم في الأزمات السياسية والعسكرية لهي أمر لافت وطريف.

إن الحروب الأخطر اليوم هي "حروب" المدن وغزوات الأحياء واشتباكات الحارات والشوارع والميادين وانفجارات هائلة تنتج عن فساد وإهمال لسنوات طويلة، وهي حروب بلا طائرات ولا دبابات، لكن أباطرتها كبار وضحاياها كُثر، وهي حروب شريرة ستخلف الكثير من البلاء، ولزمن يطول.

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.


TRT عربي
الأكثر تداولاً