تابعنا
يتعلَّق ادّعاء الحكومة الإسرائيلية بأنَّها اكتَشفت للتوِّ أنفاقاً داخل أراضيها، بالسياسات الداخلية لا بمسألة الأمن، وتتعلَّق رؤية إسرائيل في مسألة الأنفاق بنتنياهو بقدر ما تتعلَّق بحزب الله.

كمْ من المعلومات التي نقرأها عن اكتشافات إسرائيل لأنفاقٍ جديدة تابعة لحزب الله على حدودها الشمالية مع لبنان حقيقية؟ بعضٌ منها حقيقي؟ لا شيء منها حقيقي.

ركَّزَت وسائل الإعلام الدولية في لندن وواشنطن بشكلٍ كبير على "التوتُّرات" بين لبنان وإسرائيل حول هذه الأنفاق، لكن بالنظر إلى أن تقريباً كلَّ ما نقرأه من الحكومة الإسرائيلية عن الضفة الغربية وغزة ليس إلا مجموعة من الأكاذيب، إلى أيِّ درجةٍ من الجِدّية يمكن أن نتعاطى مع هذا الخبر الأخير؟

إذا كانت إسرائيل لا تستطيع البوح بالحقيقة حول قتل جنودها العشرات من المتظاهرين العُزَّل من السلاح في وقتٍ سابق من هذا العام مستشهدةً بأنهم كانوا يُمثِّلون تهديداً على الحدود نفسها، إذاً لماذا يتسنَّى على أيِّ أحدٍ أن يأخذ الخبر الأخير منهم على محملِ الجد؟

قصة الأنفاق صممت بالكامل لتشتيت الإعلام الدولي والمحلي بعيداً عن الأزمة الحقيقية لنتنياهو.

مارتن جاي

حتى على مبعدةٍ من الحدث، هناك الكثير من الجوانب غير المنطقية لقصّة أنفاق حزب الله. لعلّها نقطة انطلاقٍ جيدة أن نسأل: لماذا تثير إسرائيل هذه القضية الآن، الأنفاق نفسها موجودةٌ في أماكنها منذ سنوات، والكثير منها معروفٌ لدى الجيش الإسرائيلي، الذي بالتأكيد تفحَّص فيها في العام 2014 أو ربما في وقتٍ أسبق كانت الأنفاق معروفةً لسنوات، ولسنواتٍ أيضاً لم تُزعِج الإسرائيليين. حتى وصلنا إلى الوقت الراهن؟

ماذا حدث في إسرائيل في الأيام القليلة الماضية وتزامَنَ مع هذا الكشف المُذهِل؟ قضية الفساد ضد نتنياهو تتصاعد، ولا يمكن تجاهلها، صُمِّمَت بالكامل قصة الأنفاق -التي هي في الحقيقة ليست قصّةً على الإطلاق- من أجل تشتيت الإعلام الدولي والمحلي على السواء بعيداً عن الأزمة الحقيقية لدى الزعيم الإسرائيلي، إذ تدعو أحزاب المعارضة الآن، وللمرةِ الأولى، لإقالته.

لم تشعرْ إسرائيل بالضعف قطّ أكثر من الوقت الراهن، إذ بينما تتعثَّر حملتها لضرب إيران وحزب الله في سوريا بصورةٍ متزايدة، نسمع ونقرأ تقارير حول طائراتِ شحنٍ إيرانية في جوف الليل في بيروت تُفرِّغ تكنولوجيا تحديد المواقع (GPS) لتحويل القذائف إلى صواريخ عالية الدقة.

كان مشروع قرار الأمم المتحدة، الذي تقدَّمَت به الولايات المتحدة لإدانة الجماعات الفلسطينية المُسلَّحة لإطلاقها الصواريخ على نحوٍ مُتكرِّر على إسرائيل ولتحريضها على العنف، قد طُرِحَ قبل بضعة أيامٍ فقط من العملية، تُمثِّل العملية الإسرائيلية عنصراً ملائماً للعلاقات العامة لإضفاء المصداقية على الرواية الإسرائيلية.

إسرائيل تشعر بالذعر

ما نراه اليومَ في قصة الأنفاق هو نوعٌ من الذُّعر من جانبِ إسرائيل، وكلُّ ذلك مُصمَّمٌ من أجل تصعيد حربٍ مختلفةٍ تماماً مع حزب الله وإحراز النصر فيها: حربٌ إعلامية تدور رحاها عبر الصفحات الافتتاحية البارزة للصحف الأعلى مقاماً في العالم.

قد يُجادِل المُحلِّلون من بعيد بأن إسرائيل قد كسبت هذه الحرب، يتسبَّب جنرالاتها في إثارة ضجةٍ في إسرائيل ويبدون آراءهم في الفوارق الدقيقة في الحرب "الحتمية" مع حزب الله، ثم يُكتَب ذلك باعتباره حقيقةً واقعةً في الإعلام الإسرائيلي، الذي يُكتَب عنه التقارير، ويُحلَّل بواسطة جيشٍ من الأكاديميين في الولايات المتحدة يُضاعِفون "الحقائق"، وقبل أن تعلمها أنت يشرع الصحفيون الأميركيون في الاقتباس من هؤلاء الأكاديميين ويكتبون عن "الحقيقة" نفسها, التي هي عبارة عن أخبارٍ زائفةٍ تماماً.

لكن حينها تكون هناك غنيمةٌ خاصة في القمّة من أجل نتنياهو، وهي تأثير عمالقة الإعلام الأميركيين وما يسطره كُتَّابهم المرموقون عن الإعلام الإسرائيلي والرأي العام في إسرائيل، وهكذا تدور الأخبار الكاذبة في دائرةٍ كاملة وتعود إلى إسرائيل في حُلَّةٍ جديدة.

هذا هو ما تدور حوله قصة حزب الله الأخيرة

ليست هناك أنفاقٌ جديدة اكتشفتها إسرائيل لتوِّها وتشعر منها بتهديدٍ تخلق منه "توتُّراً جديداً". كلُّ هذه الأنباء الكاذبة هي مجرد نسج خيال، وهو نسجٌ مُصمَّمٌ من أجل أن يستعيد نتنياهو نقاطه السياسية، لكنه نسجٌ يُظهِر في الحقيقة إسرائيل أقرب إلى كونها الطرف الخاسر في صراع القوى بينها وبين إيران في المنطقة، لا الطرف المنتصر.

ليست هناك أنفاقٌ جديدة اكتشفتها إسرائيل لتوِّها وتشعر منها بتهديدٍ ما. كلُّ هذه الأنباء الكاذبة هي مجرد نسج خيال لكي يستعيد نتنياهو نقاطه السياسية.

مارتن جاي

إنها لعبةٌ مُتمَثِّلةٌ في سلسلةٍ من المخادعات الحقيقية والزائفة، وبالنظر إلى سُمعة حزب الله، فإنه عادةً لا يلتقف الطُعم. ويعرف كلا الطرفين أن الأنفاق نفسها تعبيرٌ عسكري يستخدم لتوضيح قصةٍ أكبر.

لا تخشى إسرائيل استخدام حزب الله للأنفاق بهدف "الغزو" ؛ إذ إنَّ الجماعة ليس لديها طموحات في هذا الاتجاه. إنَّه تكتيكٌ ردع وترهيب يعمل بصورة جيدة للغاية، قد تُستخدَّم جيّداً في حال وقوع هجوم إسرائيلي، لملء القرى الإسرائيلية بمقاتلي حزب الله، وهو الأمر الذي يُشكّل مصدر خوف حقيقي للجيش الإسرائيلي، لكنّ القلقَ الأكبر بالنسبة لإسرائيل ليس الأنفاق، التي تدعي أنَّها اكتشفتها، بل المزيد منها الذي لما يُكتشف بعد.

وبالنسبة لأولئك الموجودين في المملكة المتحدة والولايات المتحدة ممن ليسوا على دراية بالتفاصيل وممارسات الجانبين، قد يكون مقطع الفيديو الذي قدّمه الجيش الإسرائيلي لنفق قَطَعَه مقاتل من حزب الله مقترباً من جندي بالجيش الإسرائيلي مقنعاً للغاية.

لكن لنكن جادين، أي شخص يعرف حزب الله ويتفهم أنَّه جماعة عسكرية منضبطة، يعرف أنًه لن يضع مقاتليه في أنفاقٍ قريبة بهذا القدر من الحدود الإسرائيلية، على الأقل دون إعطائهم سلاح وليس وهم يرتدون الزي الرسمي للجماعة.

لن يخاطر حزب الله بخسارة مقاتليه الذين استثمر فيهم الكثير من الوقت والمال، لكي يأسرهم ببساطة الجيش الإسرائيلي بينما يتواجدون في النفق.

أيضاً، أي نوع من التكتيكات الإسرائيلية هذا الذي يتضمن بوضوح تحديد الأنفاق وغلقها أو تدميرها ويدع الطرف الآخر يعرف هذا؟ إنَّ فكرة أنًّ الجيش الإسرائيلي اكتشف الأنفاق التي حفرها حزب الله والآن يحتاج إلى نسفها لا تبدو منطقية، يجري التلاعب بنا وحقيقة أنَّه لم يُسمح لأي صحفي -محليّاً كان أو دوليّاً- بالمشاهدة تقودني للشك في أنَّ القصة برمتها مُلفقة.

في واقع الأمر هذه المسألة الجديدة رُسمت بطريقة يُرثَى لها لتهدئة العامة في إسرائيل بعد التقارير عن نقل صواريخ إلى بيروت كانت تقريباً مصحوبة بشريحة مُضبّط محدد التوقيت بعناية تُسربها الجماعة اللبنانية لمدن في إسرائيل يمكنها استهدافها -كليّاً بواسطة صور الأقمار الصناعية- التي أزعجت نتنياهو ولأسباب وجيهة.

نأسف لكم لكن لا حرب!

لكن الحقيقة هي أنَّه لم يكن هناك "توتر جديد على الحدود" وهو الأمر الذي يجري ذكره الآن. ولا توجد كذلك حرب وشيكة بين الجانبين؛ لأنَّ كلّا منهما يحتاج إلى الآخر لتحقيق أهدافه السياسية الخاصة.

في الواقع، تتمثل إحدى أعظم الأكاذيب التي تقترفها وسائل الإعلام الغربية في أنًّ صقور إسرائيل يحلمون بتدمير حزب الله، في حين أنَّه في الواقع لا يمكن لهذا الأمر أن يكون أكثر بعداً من هذا عن الحقيقة؛ فالصقور يحتاجون حزب الله.

لا توجد حرب وشيكة بين إسرائيل وحزب الله لأن كلا منهما يحتاج إلى الآخر لتحقيق أهدافه السياسية الخاصة.

مارتن جاي

يمكن لإسرائيل أن تكون في حالة سلام مع نفسها على المستوى الإقليمي، لكن الرأسمال السياسي الذي اُكتسب مما يسمَّى بالحرب مع حزب الله هائل للغاية، ويفوق بكثير على سبيل المثال ذريعة أن تكون إيران عدوة السعودية.

يُقدّم كلا السيناريوهَين لأصحاب المناصب قضية تنحرف عن الحكم الأمثل، في حال لم يكن هناك تهديد من حزب الله، إذاً فوسائل الإعلام والنخبة السياسية في إسرائيل -ناهيك عن الخبراء النظريين في أوهايو أو أوكسفورد- قد يدققون بصرامة أكثر في قيادة نتنياهو ويعثرون على أدلة تدينه أكثر. وينطبق الأمر نفسه على حزب الله، إذ توفّر له إسرائيل إلهاءً كبيراً.

في المرة المقبلة التي تشاهد فيها فيديو على موقع يوتيوب للجيش الإسرائيلي ينفّذ عمليات على حدوده وذِكر لأنفاق حزب الله، يمكنك بدلاً من ذلك النقر لمشاهدة مقطع الفيديو الخاص بقطّة تقوم بحركات بهلوانية وتطيح بالشعر المستعار للجدة. سيكون على الأقل هذا الفيديو أكثر مصداقية من حيث عملية المونتاج. سترى على الأرجح الخبر المقبل عن أنفاق حزب الله في تقرير عن فيلم بهوليوود يروي قصتها، ففي النهاية هي تنتمي إلى هناك.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي

TRT عربي
الأكثر تداولاً