تابعنا
تتزايد حملات التضليل ويستخدم روادها تقنيات أكثر تقدماً من ذي قبل. يحدث كل ذلك في ظل تقاعس الدول بمؤسساتها البيروقراطية عن مكافحة هذه الآفة الرقمية.

إن الدولة بجهازها البيروقراطي الهائل والمعقد لا تواكب وليس في وسعها مواكبة التسارع الحاصل في عالم الابتكارات خصوصاً في قطاع التكنولوجيا الرقمية. أصبحت هذه الفكرة واحدة من البديهيات التي لا يجد المرء صعوبة في إثباتها عبر سرد العشرات إن لم يكن المئات من الأمثلة المثبتة والمحققة.

واحدة من هذه الأمثلة المثيرة للسخرية هي أن وثيقة أمن المعلومات في الولايات المتحدة والمسماة (NSDD-14) كانت قد صدرت بتوجيه مباشر من الرئيس ريغان إثر مشاهدته عام 1983 ،من باب الصدفة، فيلم الخيال العلمي ذائع الصيت ألعاب الحرب (المناورات الحربية).

لم تلقَ هذه الوثيقة استجابة سريعة وحازمة في دوائر صنع القرار الأمنية في الولايات المتحدة. وقد طواها النسيان تقريباً لمدة ربع قرن حتى تم استعادتها في فترة ولاية الرئيس بيل كلينتون الذي كلف بدوره لجنة خاصة سميت بلجنة مارشال للبحث في كيفية حماية أنظمة المعلومات المدنية والعسكرية في الولايات المتحدة بعد أن بات الاعتماد على شبكة الإنترنت الهائل أمراً مفروغاً منه.

واحدة من أهم الأسباب التي تعيق استجابة الدولة للابتكارات التكنولوجية، خصوصاً فيما يتعلق منها بجانب الأخطار المحدقة، هو غياب الجهة المسؤولة عن التعاطي مع هذه الظاهرة بعينها.

إقبال حسين

في هذه الفترة كانت شبكة المعلومات الأمريكية عرضة للاختراق بشكل سهل إلى حد الذهول. كانت "دودة موريس" التي أطلقها أحد طلبة أنظمة المعلومات في 2 نوفمبر 1988 بغرض الدراسة كفيلة أن تقرع جرس الإنذار لما اكتشفته من هشاشة الولوج إلى شبكة المنظومات المعلوماتية العسكرية للولايات المتحدة فضلاً عن المدنية.

واحدة من أهم الأسباب التي تعيق استجابة الدولة للابتكارات التكنولوجية، خصوصاً فيما يتعلق منها بجانب الأخطار المحدقة، هو غياب الجهة المسؤولة عن التعاطي مع هذه الظاهرة بعينها.

على مدار الربع قرن، كانت مسؤولية التعاطي مع التهديدات الأمنية المعلوماتية تائهة ما بين العشرات من الوكالات الفيدرالية في الولايات المتحدة مثل وكالة الأمن القومي، والبنتاغون، وسلاح الجو .. إلخ.

لقد تم تحقيق قفزات مهمة في حماية أمن الشبكات المعلوماتية، وبات اختراقها أكثر صعوبة وإن لم يكن مستحيلاً. ولكن بقي أصل المشكلة في التعاطي مع الابتكارات حاضراً ويتكرراً على الدوام. والمشكلة مجدداً هي غياب الجهة المسؤولة الموكل إليها معالجة الآثار الناجمة عن هذه التقنية أو تلك.

اليوم المشكلة لا تكمن في حماية أمن الشبكة؛ فمع انتشار الجيل الثاني من الإنترنت، وهو الجيل التفاعلي المسمى Web 2.0 ، ومع الانفجار الحاصل في شبكات التواصل الاجتماعي، لم تعد المشكلة كامنة في اختراق الشبكات والتجسس على ما تحتويه من معلومات أو اتصالات أو سرقة بياناتها وقرصنتها وتعطيلها، بل أصبحت تتعدى ذلك إلى العبث في عقلية المستخدمين عبر حملات التضليل، والمعلومات الكاذبة.

فمنذ الحملة الشاملة التي شنتها جهات محسوبة على روسيا ضد الانتخابات الأمريكية عام 2016، لا يبدو أن الولايات المتحدة قد بذلت الخطوات المطلوبة لتحصين حياتها الديمقراطية وقناعات ناخبيها.

يظهر ذلك تقرير جديد نشره المجلس الأطلسي حيث يسلط الضوء على التقدم الذي أحرزته السلطات الأوروبية على الولايات المتحدة في مكافحة حملات التضليل والتزييف المعلوماتي.

فقد أخذ الاتحاد الأوروبي زمام المبادرة في صياغة رد ممنهج على ظاهرة التضليل. ففي ديسمبر الماضي أطلق الاتحاد الأوروبي خطة عمل شاملة ضد حملات التضليل تعتمد أساسَي الشفافية والمساءلة. وقد زاد من التمويل المخصص لهذه الحملة لتحديد وفضح المعلومات المضللة، وأنشأ "نظام إنذار سريع" للقيام بهذه المهمة في الوقت الحقيقي.

الشيء اللافت أن كلاً من شركات Google و Facebook و Twitter و Mozilla قد وقّعت على قواعد الممارسة الطوعية التابعة للاتحاد الأوروبي وهي مجموعة من البروتوكولات التي تحاول وضع معايير محددة لمحاربة التضليل. لا أحد يتوقع، بطبيعة الحال، أن يكون هناك نتائج مباشرة لهذه الخطوات ولكنها تبقى خطوات في الاتجاه الصحيح.

من جانبها تبدو الولايات المتحدة متخلفة إستراتيجياً عن الاتحاد الأوروبي في التعاطي مع هذه الظاهرة المقلقة. ويعود السبب في ذلك أن المسؤول عن التعامل معها غير محدد بشكل دقيق داخل أجهزة الدولة الفيدرالية.

على سبيل المثال، تم تكليف مركز المشاركة العالمي Global Engagement Centre التابع لوزارة الخارجية بمكافحة المعلومات المضللة التي ترعاها الدولة كروسيا وإيران. وقد بدأ بالفعل في تمويل الأبحاث وتطوير أدوات مكافحة المعلومات المضللة مع دعم مجموعات المجتمع المدني ووسائل الإعلام المستقلة.

غير أن المشكلة مع مركز GEC أنه لا يملك التفويض الذي تملكه مثلاً وزارة الأمن القومي والتي تركز على البنية التحتية للانتخابات مثل تحديث أو استبدال أجهزة التصويت الإلكترونية، وتشديد الأمن حول تخزين بيانات الناخبين ومواءمة تبادل المعلومات بين سلطات الانتخابات المحلية والفيدرالية.

إن المشكلة الحقيقية هنا أن المشرعين لا يتمتعون بمعرفة كافية حول كيفية عمل تكنولوجيا المعلومات.

إقبال حسين

كل هذه الإجراءات ضرورية ومحورية ولكنها تتعلق بحماية الشبكات التي قطعت فيها الأجهزة المعنية شوطاً طويلاً منذ إدارة الرئيس ريغان. ولكن فيما يتعلق بالتضليل فلا أحد يعرف من الذي يجب عليه اتخاذ خطوات لمكافحة التضليل خصوصاً أن الرئيس ترمب يبدو غير مكترث.

من جانبه، اقترح الكونغرس تشريعاً من شأنه أن يزيد من الشفافية في الإعلانات، ويفرض رقابة على استخدام البيانات، وينشئ خلية "دمج" مشتركة بين الوكالات لتنسيق استجابات الحكومة الأمريكية. مرة أخرى، هذه كلها أفكار جيدة، لكن حتى لا يمكن الحكم على مقدار فاعليتها. لقد تعودنا أن تأخذ القوانين الكثير من الوقت حتى تظهر الاستجابة لها.

إن المشكلة الحقيقية هنا أن المشرعين لا يتمتعون بمعرفة كافية حول كيفية عمل تكنولوجيا المعلومات. وقصة الخوارزميات وكيف تعمل تصيب غالبيتهم بالغثيان. هذا فضلاً عن التطور السريع في تكتيكات صانعي حملات التضليل.

فإذا كانت تقنية Automated bots قد استُخدمت على نطاق واسع في حملات التضليل السابقة سواء في الانتخابات الأمريكية أم في التصويت لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بريكسيت، فإن التقنيات الحديثة تتجه لاستخدام الذكاء الاصطناعي سواء عبر تحريك الصورة الثابتة أو تقنية Deepfakes وكلنا يعرف كيف انتشر على نطاق واسع الفيديو الذي صور رئيسة مجلس النواب الأمريكية نانسي بيلوسي الذي استخدم هذه التقنية وأظهرها وكأنها تلقي خطاباً وهي مخمورة.

إن صعوبة تحديد الجهة الرسمية المخولة بمواجهة هذه الظاهرة، وعجز المؤسسة التشريعية عن فهم تعقيداتها، وتلكؤ الجهات التنفيذية في متابعتها بشكل حثيث، هذا جنباً إلى جنب مع سرعة تبنّي جهات محسوبة على الدول أو جهات خاصة لهذه التقنيات التضليلية للوصول إلى أهدافهم، يرسم أمامنا صورة قاتمة عن المستقبل الذي ينتظرنا فيما يتعلق بواحدة من أهم التكنولوجيات التي تعتمد عليها حياتنا.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي. 

TRT عربي
الأكثر تداولاً