تابعنا
فيما تسابق إسرائيل الزمن لإعلان مشروع الضمّ لأجزاء واسعة من الضفة الغربية وغور الأردن، بخاصة بعد إعلان حكومتها الجديدة، يواصل الفلسطينيون إعلان مواقفهم المنددة بالمشروع، نظراً إلى خطورته عليهم.

لكن التصريحات السياسية الصادرة عن السلطة الفلسطينية، والمظاهرات الميدانية المنددة، والتحركات الدبلوماسية، لم ترقَ بعد لأن تشكّل كابحاً أمام صانع القرار الصهيوني لعدم المضيّ قدماً بهذا المشروع الخطير.

تدفع هذه المواقف الفلسطينية المنخفضة بإسرائيل لأن ترى بهذا التوقيت فرصة سانحة لإعلان سيادتها المزعومة على مستوطنات الضفة وغور الأردن، رغم أنه قد يعرّض السلام مع الأردن للخطر، ويسيء لعلاقاتهما، ويزعزع الهدوء الأمني المستمر منذ سنوات طويلة على حدودها الشرقية.

بالنسبة إلى المواقف الفلسطينية، فرغم الأوضاع العاصفة بالضفة الغربية، فإنها بقيت مستقرة نسبياً، خلافاً للتوقعات الإسرائيلية القاتمة، مما يتطلب معرفة سبب التزام السلطة الحفاظ على هذا الهدوء، واستمرار العلاقات مع إسرائيل، وضمان الحفاظ على الاستقرار الأمني في الضفة.

الموقف المتهاون من السلطة تجاه مشروع الضم الإسرائيلي ليس جديداً، فأسبقياتها عديدة في المواقف الباردة إزاء العدوان المتكرر من قوات الاحتلال الصهيوني، رغم اتسام الفترة منذ صعود محمود عباس للسلطة في 2005، بنشوب أزمات أمنية وعسكرية مستمرة، واندلاع ثلاث حروب عسكرية قاسية على غزة بين عامي 2008 و2014.

فضلاً عن ذلك، فقد اندلعت أزمة الحرم القدسي في صيف 2017، ونقل السفارة الأمريكية للقدس في مايو/أيار 2018، وتطورات إعلان صفقة القرن في يناير/كانون الثاني 2020. لكن المواقف الرسمية الفلسطينية اقتصرت على البيانات السياسية والتصريحات الإعلامية، دون ترجمتها على أرض الواقع، وفي جميع هذه الحوادث السياسية والأمنية التي عصفت بالوضع الفلسطيني، أظهرت السلطة هدوءاً لافتاً وغريباً.

إزاء هذه الخلفية، واستناداً إلى الخبرة السابقة، فإن التحذيرات الإسرائيلية الاستراتيجية من التبعات المتوقعة على مشروع الضم، وإمكانية نشوء تغيير دراماتيكي قد يحدث بالضفة، كانتفاضة الأقصى لعام 2000، أو انتفاضة شعبية ثالثة كالانتفاضة الأولى في 1987، يبدو مبالَغاً فيها، وهذا ما يدفع الكيان الصهيوني بالتمادي في عدوانه.

السلطة .. مكامن العجز

في الوقت ذاته، تسود الأجواءَ الأمنية والسياسية الإسرائيلية جملةُ نقاشات حول توجهات السلطة للردّ على مشروع الضم بإمكانية أن تلجأ إلى تفكيك نفسها، ونقل صلاحياتها الكاملة بالضفة لإسرائيل، ورغم جميع هذه الاتجاهات السلبية، فلا يبدو أن هذه التوقعات ستتحقق، مما يتطلب معرفة أسباب بقاء "الصمت الغريب"، وما تظهره السلطة بقيادة أبو مازن من برودة أعصاب لافتة، وسقف سياسي منخفض إزاء مشروع الضم الصهيوني غير الشرعي.

أول هذه الأسباب هو ما يصدر عن السلطة من إدانات وتحذيرات من تنفيذ مشروع الضمّ، لكنها في الوقت ذاته حريصة على الحفاظ على قنوات الحوار مع دولة الاحتلال، بخاصة التنسيق الأمني، وتجنب الترويج لصراع عنيف ضدها لتحقيق أهداف سياسية، وخشية كبار مسؤوليها أن حماس قد تصبح أقوى، أو تسيطر تدريجياً على الضفة الغربية.

عامل آخر يتعلق، على الأقل وفق التقييم الإسرائيلي، بأن الجمهور الفلسطيني بالضفة يختلف في خصائصه اليوم عما كان في الأيام الأولى من عصر أوسلو 1993 وانتفاضة الأقصى 2000، فقد غمرت ذاكرته الجماعية الثمن الباهظ الذي سيدفعه عقب مواجهة واسعة النطاق مع إسرائيل، كما حدث بعد عدوان السور الواقي 2002، ونشوء مظاهر ميدانية بقيادة المجموعات المسلحة التي داهمت الضفة الغربية.

سبب ثالث يرتبط بما يمكن وصفه بحالة اغتراب الجمهور الفلسطيني عن قيادته السياسية ممثلة بالسلطة، إذ ظلت علاقتهما محلّ جدل لسنوات عديدة، فكبار مسؤوليها متهمون بالفساد المالي، ويستغلّون المؤسسات الحكومية، ويحافظون على أصولهم المادية، ويمنعون إحياء وتجديد النظام السياسي الفلسطيني.

عامل رابع يتعلق بأن السلطة لديها أغلبية كبيرة من الزعماء القدامى، أما تمثيل الأجيال الشابة فهو محدود للغاية، حتى إن استطلاعات الرأي تشير إلى هذا الاغتراب، وتظهر تطلع ما يزيد على 60% من الفلسطينيين إلى استقالة أبو مازن، ونتيجة لذلك، تجد السلطة صعوبة بتعبئة الجمهور في التحركات التي تروج لها.

دافع خامس يرتبط بمشكلة فلسطينية تتعلق بالأعباء المعيشية، بعد أن تمتعت الضفة بالاستقرار الاقتصادي، لكن معدلات البطالة مرتفعة نسبيّاً، بخاصة بين الشباب، والانخفاضات مستمرة في المساعدات المالية الخارجية للسلطة. وهذا الأمر يجعل من الخوف على الحالة المعيشية هاجس لدى الكثير من القطاعات.

في المقابل، فإن استعراض المواقف الفلسطينية الرسمية المنخفضة من خطة الضم تدفعنا إلى الحديث عن سلوك دولة الاحتلال تجاه السلطة، التي بقيت في حالة احتكاك سياسي معها، وحرصت على فصل الأزمات السياسية عن المعيشية، وبقيت محافظة على اتصال مستمر معها على جميع المستويات، بخاصة التنسيق الأمني.

لكن الجانبين، "إسرائيل" والسلطة، أظهرا على مر السنين، حرصاً عميقاً على أهمية تحقيق الهدوء الأمني بالضفة الغربية، وعدم تقويض استقرار السلطة، رغم تطور تهديداتها لإسرائيل على خلفية مشروع الضم، لا سيما وأن المعطيات الاقتصادية تقلّل احتمالات الاحتجاجات الشعبية والنضال المسلح ضد دولة الاحتلال، وفق القراءة الإسرائيلية على الأقلّ. ذلك أن قادة السلطة رضوا بالدور الوظيفي الأمني الذي يلعبونه مقابل بقائهم في مناصبهم والتمتع بالامتيازات.

تحركات على الأرض دون السقف المطلوب

رؤية أخرى تتناول ما يظهره الفلسطينيون من استعدادات لمواجهة القرار الإسرائيلي بالضم، بخاصة إطلاق الفاعليات الشعبية، ومنح ضوء أخضر لتنظيم مظاهرات جماهيرية، قد تأخذ أبعاداً عنيفة، وقد تتدهور الأمور الميدانية.

علم كاتب السطور أن السلطة زادت في الأسابيع الأخيرة جاهزيتها واستعداداتها تحسباً لإخراج إسرائيل قراراتها الخاصة بالضم إلى حيز التنفيذ، ويبدو أن السلوك الذي تقوم به السلطة خلال الأسابيع الأخيرة يستند إلى عنصرين أساسيين: الأول هو اتفاق بنيامين نتنياهو وبيني غانتس حول حكومة الوحدة، وبموجبها لن يكون لحزب أزرق-أبيض حق الفيتو على أي تشريع لعملية الضم، وفرض السيادة الإسرائيلية على مساحات من الضفة الغربية، والثاني يتعلق بالغطاء السياسي الأمريكي المتوافر لإسرائيل حول هذا الموضوع، فالضم سيكون جزءاً من الحملة الانتخابية للرئيس دونالد ترمب بعد ستة أشهر.

أوساط فلسطينية كشفت للكاتب أن السلطة شكلت عدة لجان لمواجهة قرار الضم، وهي تعمل يومياً، صحيح أن السلطة تعمل لمواجهة سيناريوهات متوقعة، وأمام كل سيناريو تحضر عدداً من خطط العمل ضد السياسة الإسرائيلية، وتبعاتها المتوقعة، لكن المهامّ التي تقوم بها هذه اللجان قد تكون دون جدوى، وبلا فائدة، ما دام سقفها السياسي الأقصى مرهوناً باستمرار العلاقة مع دولة الاحتلال، لا سيما في شقها الأمني.

تتلخص الإجراءات السياسية التي تقوم بها السلطة لمواجهة مشروع الضم الإسرائيلي، في ما شهده أولاً مقر الرئاسة الفلسطينية برام الله من عقد سلسلة مشاورات قيادية داخل فتح ومنظمة التحرير، لاستعراض السيناريوهات التي قد تواجهها في الفترة المقبلة، وثانياً متابعة الحسابات الشخصية على شبكات التواصل للقيادات الفلسطينية لمعرفة حجم الضغط الذي يواجهونه بفعل سياسة الضم القادمة، وثالثاً ما يُجرُونه من لقاءات يومية واتصالات هاتفية بوزراء الخارجية والدبلوماسيين الغربيين والعالم، ورابعاً التفكير المتداول حالياً بإقامة تحالف دولي ضد قرار الضم، لاتخاذ خطوات ميدانية.

المحافل الأمنية والعسكرية لدولة الاحتلال تتحضر لمواجهة الرفض الفلسطيني لخطة الضم عبر التصعيد الميداني، في ظلّ ما تشهده الأراضي الفلسطينية من انشغال لافت بها، حتى باتت قابلة للاشتعال في أي لحظة، في ظلّ توافر جملة من العناصر الدافعة نحو هذا الانفجار المتوقع عقب إعلان قرار الضم.

العنصر الأول هو استهداف اقتصاد الفلسطينيين والتضييق عليهم، والثاني المخاوف الفلسطينية المتزايدة من استغلال دولة الاحتلال لأزمة كورونا لإجراء تغيير في الحرمين القدسي والإبراهيمي، والثالث قلق الفلسطينيين من توظيف دول الاحتلال للدعم الذي تحظى به من واشنطن.

تضع دوائر صنع القرار الإسرائيلي ومراكز التفكير فيها خارطة طريق تتضمن جملة من الخطوات العاجلة للحيلولة دون الوصول إلى ذلك السيناريو الكابوس على خلفية مشروع الضم، أولها الحفاظ على مستوى معيشة الفلسطينيين بالضفة، وثانيها عدم اتخاذ عقوبات ضد السلطة كتقليص الأموال الشهرية، والثالثة التوقف عن إحداث تغيير للأوضاع الميدانية في الأماكن المقدسة الحساسة، والرابعة تحذير حماس بعدم توتير أوضاع الضفة من خلال الهجمات المسلحة.

خلاصة القول أن السلطة الفلسطينية المتخوفة من خطة الضم، والتي تواصل إطلاق تهديداتها العنيفة تجاه إسرائيل، تبدو في الوقت ذاته حذرة من كسر كل أواني اللعبة معهما، مع أن خوف الإسرائيليين من السيناريو الأكثر تطرفاً في الساحة الفلسطينية يتمثل بمظاهرات عنيفة، قد تؤدي إلى انهيار السلطة، أو تفكُّكها، رغما عنها، عقب تنفيذ مشروع الضم في الأسابيع القادمة.

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.


الأراضي الفلسطينية  (TRT Arabi)
الأراضي الفلسطيني.  (TRT Arabi)
صفقة القرن (AA)
TRT عربي
الأكثر تداولاً