تابعنا
يَعْسُر علينا كثيرا فهم ظاهرة شن الحروب على الناجحين، تستفزنا الجهود المبذولة في التحطيم والإيذاء والتعنيف، تستدعي مخيالنا، إرثنا، تَمثُّلاتنا، ذاكرتنا المنشرخة، تتقاذف الصور في الأعماق، لنصل إلى حقيقية أن هذه الحروب سببها التنشئة وسوء تقدير الإنسان.

يوماً ما تحدث شيخ المسرحيين المغاربة أحمد الطيب لعلج، مُختزلاً تجربته في القول والحياة، ومُوجهاً سهام النقد إلى "جَلَّادِي النجاح"، قال بكل امتلاء: "في العالم العربي تحديداً، يمكن أن ترتكب كل الحماقات والخطايا والأخطاء، وتُغفر لك، إلا أن تكون ناجحاً، فذلك أمر غير مقبول بالمرة، إنه مجتمع لا يقبل بالتفوق".

لربما يعتصر هذا التخريج تجربة حياتية تعلَّم فيها الراحل، ضرائب النجاح والتميز، لربما يدعونا أيضاً إلى مساءلة الذات العربية التي تردد باستمرار، أن "زمَّار الحي لا يطرب"، وألا "كرامة لنبي في وطنه"، وأن "أخا الجهالة في النعيم يسعد"، كما انتظم شعراً ذات بيت بهي. فلماذا تتواصل الحرب ضد الناجحين، وبصيغ متعددة مفتوحة على التخوين والتشهير والتبخيس؟ ولماذا يتم الاحتفاء بالإخفاق والمُخفقين؟ هل نَهَاب النجاح؟ أم أن نجاحهم/نجاحهن يذكرنا بعجزنا عن الإنتاج والفعالية؟

لا شيء أبشع ولا أقسى من أن يُقابل نجاحك المفترض بالحسد والحقد والضغينة المجانية.

عبد الرحيم العطري

ما أن يفوز أحدهم بجائزة ما، أو يحقق ارتقاءً مهنيّاً ما، أو يشتري سيارة ما، حتى تنطلق "الجاليات العربية المقيمة في المقاهي والمواقع الاجتماعية" في إعلان الحرب ضده، وكأنه اغتال جدها السابع عشر. ينطلق مديح الإخفاق مدوياً في الواقعي والافتراضي، ليكشف عطباً قديماً يعتور خطابنا وممارستنا، يكشف خوفنا السرمدي من النجاح وانتصارنا للمشي في الظل قريباً من الجدران المتهالكة. هكذا نمسي ونصبح في هذا المجال التداولي العربي، نحتفي بالفاشلين ونحارب الناجحين، ونمثل بمنجزاتهم الأرض، في اشتغالات سادية تعجز أعتى المدارس السيكولوجية عن تأويلها.

كثيراً ما يستبد بنا القلق حيال ما يحدث في واقعنا العربي من حقد طبقي، ننفثه سمّاً زعافاً، في وجه من يفوقنا علماً ومالاً وخلقاً وحتى جمالاً، نستلُّ سيوفاً لنقطع أحلاماً أينعت ومشاريع تبلورت. فهل الأمر عائد بالضرورة إلى سيكولوجية الإنسان المقهور أو المهدور كما انتهى إلى ذلك مصطفى حجازي في كِتَابَيْهِ الشهيرين؟ هل القهر الاجتماعي الذي نتجرعه ظلماً و "حكرة" في أوطان لا تكتمل، هو ما يجعلنا نبدي العداوة لكل وارد جديد؟ هل هو ميلنا الدائم إلى الجحود واللا اعتراف، هو ما يبرر منطق الاحتراب في مواجهة النجاح؟

سعينا إلى الفهم هو ما يوجب طرح هذه الأسئلة غير المريحة والمكلفة نفسيّاً واجتماعيّاً، هو ما يدعونا، أيضاً، إلى الإقرار بأن تنشئتنا المجتمعية تتحمل نصيباً كبيراً من المسؤولية في تقرير الحال والمآل. ذات التنشئة التي تجعل من التفوق على الآخر ضرورة قصوى، ومن الفرح بخسارة المختلف عنا، غاية الغايات. هي المسؤولة حتماً عن هذه الفظاعات والخيبات، فلا أبشع ولا أقسى من أن يُقابل نجاحك المفترض بالحسد والحقد والضغينة المجانية.

لقد بات وطننا المثخن بالجراح، مُنتِجاً لأعداء النجاح بشكل متواتر، بات مُحتضِناً لهم في كل السياقات، حيث يختصون في التشويش على المائزين ووضع "قشور الموز" في طريقهم، فلا هَمَّ لهم سوى تبخيس النجاحات والتشكيك في الجدارة والاستحقاق، ولِمَ لا الذهاب بعيداً في مسارات "الاغتيال الرمزي" عن طريق الإشاعات والسجالات الفارغة.

"كل كتاب جديد يبدعه الكاتب، سيضيف إليه قراء ومعجبين، وفي الآن ذاته، وبعدد النسخ المطبوعة، سيضيف جيشاً احتياطيّاً من الأعداء"، هذا ما خلص إليه كاتب مغربي معتق اسمه إدريس بنسعيد، فالإنجازات والنجاحات لا تُسعد الجميع، بل تشعل نيران الكراهية الممهورة بتوقيع العاجز، ألم يقل نيتشه يوماً بأن "إنسان الحقد هو إنسان العجز".

إننا نموت عشرات المرات في اليوم الواحد عندما نحارب الناجح ونحتفي بالفاشل والتافه، في عزف نشاز لمديح الإخفاق.

عبد الرحيم العطري

تُصر خطابات التنمية الذاتية في كل حين على تذكيرنا بأن الغرب لا يفوقنا في شيء من حيث الإمكان المَوَارِدِي، بل نحن من نتفوق عليه بالنظر إلى الخيرات التي تجود بها أراضينا من الماء إلى الماء، ومن كل ألوان الذهب. الفارق يكمن فقط في "تقدير الإنسان" والاعتراف به، فذات الغرب الذي يوصَّف خطأً واعتسافاً بالكافر، وفقاً لثنائية دار الإسلام في مقابل دار الحرب أو الكفر، ذات الغرب هو الذي يشجع الفاشل ليصير ناجحاً، ويعترف بالناجح ليواصل نجاحاته ويستمر في بناء شموخه المادي والرمزي، فيما نحن منتصرون لمديح الإخفاق، احتفاءً بالفاشلين ومُحاربةً للمتفوقين.

شيئان لا نستطيع التحديق فيهما طويلاً، حسب ريجيس دوبري، إنهما الشمس والموت، يمكن أن نضيف ثالثة الأثافي، مُمثَّلةً في "نجاح الآخر" وتحديداً في هذا الهُنَا والآن، حيث الجحود سيد الموقف، والحقد الطبقي فوق المتوقع. فللواقعة بعد سياسي لا يمكن إلغاؤه بالمرة، فالكل سياسة.

المسؤولية في كره النجاح تقع على التنشئة التي تجعل من التفوق على الآخر ضرورة قصوى.

عبد الرحيم العطري

تنشأ الأعطاب السياسية والاجتماعية بسبب انبناء أوضاع غير عادلة، تتعارض فيها المصالح، أو بالأحرى تُنتهك فيها مصالح البعض، وهو ما يقود إلى بروز مُضطَهِدين ومُضطَهَدين، أي مالكين لوسائل الإنتاج والإكراه، وغير مالكين أصلاً لهذه الوسائل، والنتيجة تعارُض في الرؤى والمواقف واختلال بنيوي مأزوم، يجعل كل طرف يشحذ إمكانياته وقواه لتدبير الصراع وتحصين الموقع. وهنا بالضبط يبدأ الاحتجاج من أجل إعادة توزيع منافع النسق، وتجاوز حالات العُسر والاضطهاد واللا توازن. أو يبدأ الاختلال وتدوير العطب في شكل انحرافات وانشدادات إلى الحقد الطبقي والتطاحن الاجتماعي المجاني.

يَعْسُر الفهم في أحايين كثيرة، ولا نستوعب جيداً لماذا تُشَن هذه الحروب على الناجحين منا، تستفزنا الجهود المبذولة في التحطيم والإيذاء والتعنيف، تستدعي مخيالنا، إرثنا، تَمثُّلاتنا، ذاكرتنا المنشرخة، تتقاذف الصور في الأعماق، ونتذكر جيداً ما قاله سارتر ذات يوم أننا قُذفنا إلى هذا العالم، ولربما قُذفنا إليه كيفما اتفق، وعلى حين غرة.

إننا نموت عشرات المرات في اليوم الواحد، نموت عندما نتخلى عن أحلامنا كما قال أمبيرطو إيكو، نموت عندما نخون نصنا الأصلي، نموت عندما يموت الإنسان فينا، ويستيقظ الوحش الذي يسكننا، إننا نموت عندما ننتحر طبقيّاً ونحقد طبقيّاً ولا طبقيّاً، عندما نودِّع البسمة ونصادق الحزن، عندما يغفو فينا الفرح وتنساب منا البراءة. نموت بكل بساطة عندما نحارب الناجح ونحتفي بالفاشل والتافه، في عزف نشاز لمديح الإخفاق. فمتى ننتهي من صناعة الألم بدلاً من الأمل؟

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي

TRT عربي
الأكثر تداولاً