تابعنا
تبنت تركيا موقفا إنسانيا تجاه الأزمة السورية منذ اندلاع أولى شرارات المظاهرات في البلاد في 15 مارس/ آذار 2011، ثم تحولها لاحقا إلى حرب أهلية وفاجعة إنسانية هائلة.

وفي كل مرحلة، ركزت تركيا على وحدة وسيادة الأراضي السورية من جهة، ومن جهة أخرى بذلت قصاري جهدها لتقديم يد العون إلى اللاجئين السوريين سواء من اضطروا على الهجرة إلى تركيا أو من أجبروا على النزوح إلى مناطق أخرى داخل البلاد.

وعند النظر إلى ما آلت إليه الأوضاع في البلاد، نجد أن البيئة غير المستقرة التي ظهرت نتيجة الفراغ الناجم عن الحروب المتواصلة منذ 8 سنوات، سيمّا في شمالي سوريا، وصلت إلى حد يهدد الحدود التركية وأمنها الداخلي. وعليه، أطلقت تركيا عملية درع الفرات في البداية، ثم عملية غصن الزيتون، وبدأت في إقامة مناطق آمنة في حدودها الجنوبية مع سوريا.

غير أن "وحدات حماية الشعب" "بي الإرهابية، التي أُسست بدعم أمريكي وأوروبي، تحت ذريعة مكافحة تنظيم "داعش" الإرهابي، تم تزويدها خلال العامين الأخيرين بعشرات الآلاف من شاحنات الأسلحة المتطورة التي أرسلتها الولايات المتحدة عبر العراق، ومن ثم أقام هذا التنظيم ممرا إرهابيا جديدا شمالي سوريا، شرقي نهر الفرات على طول الحدود التركية الجنوبية.

ومنذ عامين، تواصل تركيا إخطار الولايات المتحدة بأن هذا الممر يهدد أمن حدودها، ويسبب حدوث موجات هجرة جديدة نتيجة ممارسات الترهيب والقمع التي يفرضها عناصر وحدات حماية الشعب الإرهابية على سكان المناطق التي استحوذ عليها.

وخيّرت تركيا الولايات المتحدة بين أن توقف واشنطن دعمها لهذه القوى الإرهابية وتجمع الأسلحة التي وزعتها عليها، وبين أن تتدخل أنقرة إلى المنطقة وتبدأ عملية عسكرية أحادية الجانب من أجل إعادة توفير أمنها واستقرار المنطقة من جديد.

ولمرات عديدة لم تفِ الولايات المتحدة بوعودها بشأن إقامة منطقة آمنة، وزجت بتركيا في مرحلة إلهاء، وفي هذه المرحلة أخطرت أنقرة الجانب الأمريكي بأنه إذا استمرت المخاوف الأمنية التركية، فسيتم الشروع في التدخل وإطلاق عملية عسكرية دون انتظار مصادقة واشنطن.

وفي النهاية، أعلنت الولايات المتحدة في إطار مرحلة مباحثات جديدة بدأت خلال الشهرين الأخيرين، أنها ستسحب وحداتها العسكرية من المنطقة، ولن تتدخل حال إطلاق تركيا عملية عسكرية من أجل إقامة منطقة آمنة بطول 500 كيلومترا، وعمق 30 كيلومترا شمالي سوريا.

ومع ذلك، لا تزال السياسات المتناقضة التي تتبناها الإدارة الأمريكية منذ مدة طويلة، بعيدة عن إرضاء تركيا في هذه المرحلة. وتصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترمب بشأن "تدمير تركيا إقتصاديا من جديد"، إثر تعرضه لانتقادات عقب تعهده بسحب قواته من شمالي سوريا، توضح مدى حالة الارتباك الكبيرة التي يعاني منها الجانب الأمريكي.

لكنّ ذلك لم يُحدث أي تغيير بخصوص عزم تركيا وإصرارها على التدخل عسكريا في المنطقة. فقد استكملت تركيا استعداداتها التي كانت تقوم بها في المنطقة الحدودية منذ مدة طويلة. وخلال كتابة هذه السطور، أي في 9 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، انطلقت في الواقع العملية المرتقبة. 

سلاح الجو التركي ووحدات المدفعية بدأت بقصف مخازن الإسلحة والذخيرة وطرق الإمداد في مناطق "تل أبيض" و"راس العين" الحدودية، وخلال ساعات الليل بدأت القوات البرية في الدخول إلى سوريا.

لا شك أن إحدى النقاط الواجب التركيز عيها في هذا الخصوص تتمثل في إطلاق القوات المسلحة التركية هذه العملية مع الجيش السوري الحر (بمسماه الجديد الجيش الوطني السوري)، وبدء التحركات البرية في أول أيام العملية.

والمنهجية التي تتبعها تركيا في هذا التحرك تتمثل في التعاون مع العناصر المحلية وتنفيذ عملية على نطاق شامل دون إلحاق أية أضرار بالأهداف المدنية، مثلما فعلت في عمليتي درع الفرات وغصن الزيتون السابقتين.

ولعل الخسائر المدنية الهائلة والدمار والتخريب الذي لحق بالمناطق التي أجرى فيها التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة عمليات عسكرية ضد تنظيم "داعش" الإرهابي سواء في العراق أو سوريا بالتعاون مع تنظيم وحدات حماية الشعب تعد مؤشرات واضحة على مدى أهمية الإنجازات التي حققتها القوات المسلحة التركية.

إضافة إلى ذلك، نحن على علم بأن الأسلحة والذخيرة التي وصلت بشكل غير محسوب وبلا حدود إلى تنظيم وحدات حماية الشعب الإرهابية من الولايات المتحدة والتحالف الدولي منذ مدة طويلة، لم تكن من أجل مواجهة تنظيم "داعش" الذي زالت خطورته منذ مدة، وإنما كانت من أجل إحكام تلك الوحدات الإرهابية سيطرتها في شمالي سوريا وشرقي الفرات، وتخزينها من أجل استخدامها في الهجمات الإرهابية التي ينفذها تنظيم PKK الانفصالي ضد تركيا.

ولهذا السبب، سيتوجب بذل جهود كبيرة من أجل الفصل بين السكان المدنيين والعناصر الإرهابية التي حشدت قواتها واستعدت ضد أي تدخل تركي محتمل.

ولا شك أيضا أنه من المهم تسليط الضوء على ردود الفعل الصادرة عن الرأي العام العالمي، سيمّا الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة بشأن العملية العسكرية التركية. فمن المعروف أن هذه الدول المشار إليها أبلت بلاءً سيئا منذ بدء الأزمة السورية، ومع بدء العملية التركية بدأت هذه الدول تلعب على الجانبين، وتسعى حاليا لمنع تولي تركيا دورا فعالا في المنطقة.

والتوجه النابع من عدم تصنيف هذه الدول تنظيمات مثلوحدات حماية الشعبو"قسد" كجماعات إرهابية حتى اليوم، إضافة إلى توجهات أخرى لا تقبل بأي شكل من الأشكل تحمل مسؤولية واستلام إرهابيي "داعش" المحبوسين حاليا شمالي سوريا، تدفع هذه الدول ليس لدعم تركيا فقط، وإنما لعرقلة كافة الخطوات التركية.

وخلال هذه المرحلة، يتوجب على تركيا مواصلة دفاعها عن أهمية وعدالة قضيتها، وإبراز كافة الأدلة التي تثبت ذلك من ناحية، ومن ناحية أخرى يتوجب عليها مواصلة جهودها فيما يتعلق بتوفير الدعم المادي والسياسي اللازم لإقامة المنطقة الآمنة على طول الحدود التركية شمالي سوريا، كما وضحها الرئيس رجب طيب أردوغان خلال كلمته مؤخرا في الدورة الـ74 للجمعية العامة للأمم المتحدة.

فالقوة العسكرية والاستخباراتية واللوجستية التركية تكفي لإزالة العناصر الإرهابية من المنطقة الممتدة إلى 500 كيلومترا وبعمق 30 كيلومترا على طول الحدود، غير أنه يتوجب على الأمم المتحدة، والجامعة العربية، والاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة دعم البنية التحتية في المنطقة الآمنة، وضمان استمراريتها، فضلا عن الفعاليات التي ستجرى خلال عملية السلام في سوريا مستقبلا.

وإذا لم يحدث ذلك، فستجد كل هذه الدول نفسها مضطرة لدفع فاتورة الاضطرابات الجديدة وموجات الهجرة التي ستبدأ من منطقة إدلب على وجه الخصوص وستنتشر إلى عموم سوريا.

وإلى جانب العملية العسكرية، يتوجب على تركيا أن تركز جهودها الدبلوماسية نحو إزالة حالة الارتباك لدى الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، والجامعة العربية. وتأمل تركيا خلال هذه المرحلة أن يتم إنجاز عملية سلام تحترم وحدة الأراضي السورية، وتهدف إلى ضمان الحقوق الديمقراطية للشعب السوري. 

وبدعم من مباحثات جنيف، تتحقق عملية السلام التي بدأت بمحادثات أستانة من أجل بدء إعمار البلاد من جديد بعد تحولها إلى ساحة تتصارع فيها القوى الكبرى وتجرى فيها حروب بالوكالة.

ها هي تركيا تنفذ المسؤوليات التي تقع على كاهلها فيما يخص سوريا، وعلى الرأي العام العالمي أن يحترم ذلك.  

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِّر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي