تابعنا
الأزمة الإنسانية في اليمن وما نجم عنها من عشرات الألوف من الضحايا، وأزمة العدالة في قتل الصحافي جمال خاشقجي وما ينجم عنها من اعتداء سافر على حرية التعبير، لا يمكن اعتبارهما شأناً داخلياً سعودياً، بل هما شأن يخص كل فرد في المجتمع الدولي.

في معارضة مباشِرة للرئيس الأميركي دونالد ترمب، صوَّت مجلس الشيوخ يوم الخميس الماضي 13ديسمبر/كانون الأول لصالح تمرير قرارٍ مفاجئ لتوبيخ أحد أقرب حلفاء الولايات المتحدة؛ إذ دعا مجلس الشيوخ لإنهاء التدخُّل الأميركي في الحملة العسكرية التي تقودها السعودية والإمارات في اليمن، وألقى بالمسؤولية على وليّ العهد السعودي محمد بن سلمان في القتل الوحشي للصحفي جمال خاشقجي. فيما توجَّهَت الرياض، في الحال، لانتقاد المجلس التشريعي، وانتقدت أعضاءه لتدخُّلهم في الشأن السعودي "الداخلي".

القتل: شأن شيطاني

لكنَّ قتلَ خاشقجي يبدو عملاً شيطانيّاً لن تخمد ناره ببساطة، إنه بعيدٌ كلَّ البعد عن كونه شأناً سعوديّاً داخليّاً. وكما يعلم معظم الناس حتى الآن، فإن خاشقجي قُتِلَ داخل القنصلية السعودية في إسطنبول، بينما لا تزال تفاصيل هذه الجريمة المُروِّعة يغلِّفها الضباب، لا يمكن التشكيك في أن عملاء سعوديين هم المسؤولون عن هذا.

قتل خاشقجي عمل شيطانيّ لن تخمد ناره ببساطة، إنه بعيدٌ كلَّ البعد عن كونه شأناً سعوديّاً داخليّاً.

طلحة عبد الرزاق

طبقاً لرواية الرياض، التي أنكرت في البداية أنه قُتِلَ من الأساس، فإن القتل تمَّ على يد عملاء مارقين تصرَّفوا بلا أوامر، وقتلوا الصحفي بدمٍ بارد، وقوبلت هذه الرواية بانتقاد شديد حول العالم، وبينما استبعد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان تورُّط الملك سلمان بن عبد العزيز، تجاهَلَ، بشكلٍ ملحوظ، الحديث عن احتمالية تورُّط محمد بن سلمان في الجريمة.

وحتى تتمكَّن الرياض من الادعاء بأن قتل خاشقجي هو شأنٌ داخلي، كان يجب، على الأقل، أن يحدث ذلك داخل الحدود السعودية، لكنه حدث بكلِّ وقاحةٍ داخل الحدود التركية، وكانت الشرطة التركية وجهاز الاستخبارات التركي مسؤولَين مسؤوليةً مباشِرةً عن كشف تفاصيل هذا الحدث وتقديمه إلى العالم.

على الرغم من أن السفارات والقنصليات تعتبر من الناحية التقنية أراضي تخضع لسيادة الدول التي تملكها، كان خاشقجي في ضيافة تركيا وكان في القنصلية فقط ليتمكَّن من استخراج أوراق ضرورية للزواج من امرأةٍ تركية، وهذا في حدِّ ذاته يجعل قضيته أكبر من مجرد شأن سعودي داخلي.

سيحرص الديمقراطيون على تحجيم طموحات ترمب بقدر المستطاع، ويمكن أن يتضمَّن هذا سلبه القدرة على بيع الأسلحة للسعوديين والإماراتيين.

طلحة عبد الرزاق

بعيداً عن هذا، كان خاشقجي أيضاً مقيماً في الولايات المتحدة، وكان كاتب أعمدة في صحيفة The Washington Post وهي صحيفة أميركية كبيرة، وإذا نظرنا إليه في منفاه الاختياري في الولايات المتحدة الأميركية بسبب كتاباته كمعارض سعودي يجهر بالنقد لسياسات محمد بن سلمان، فهذا يعني أن أي شيء يحدث له سيكون محطَّ اهتمام لقطاعٍ كبير من الرأي العام الأميركي.

وهذا، بلا شك، سيجر الحكومة الأميركية نفسها وحتى ترمب، الذي خرج على الملأ ووصف مقتل خاشقجي بأنه "أسوأ عملية تستُّرٍ حدثت في تاريخ العمليات السرية".

اليمن: شأنٌ عالميٌّ

لم يخدمْ رد الفعل العالمي حيال مقتل خاشقجي في توضيح مدى الانقسام الحادث في قضية اليمن فحسب، مثل الصراع بين البيت الأبيض ومجلس الشيوخ، ولكنه أوضح أيضاً تأثيرها الدولي.

لم يمرّ زمنٌ طويلٌ منذ مقتل خاشقجي حتى شهدنا قرار مجلس الشيوخ الذي يدعو إلى إنهاء الدعم الأميركي لعمليات التحالف الذي تقوده السعودية في اليمن، وهو قرار من المُحتَمَل أن يُعِدَّ الساحة لصدامٍ سياسي بين البيت الأبيض والكونغرس في العام المقبل، خاصةً بعد الخسارة التي شهدها الجمهوريون في مجلس النواب هذا العام.

سيحرص الديمقراطيون على تحجيم طموحات ترمب بقدر المستطاع، ويمكن أن يتضمَّن هذا سلْبه القدرة على بيع الأسلحة للسعوديين والإماراتيين الذين يستخدمونها في قصف الحوثيين.

سنكون غير عادلين إذا قلنا إن أزمة اليمن ليست شأناً سعوديّاً داخليّاً؛ ففي النهاية هناك رأيٌ يقول إنه لولا الدعم الإيراني للحوثيين بالسلاح والتدريب والدعم السياسي، لما شعرت السعودية بأنها مضطرةٌ لفعلِ شيءٍ ما على حدودها الجنوبية.

نشرت قوات درع الجزيرة، التي تهيمن عليها السعودية، قواتها في البحرين منذ عام 2011 لقمع الاضطرابات التي كادت أن تُسقِط آل خليفة، وهم حلفاء الرياض في العاصمة البحرينية المنامة.

محاولة تخيُّل كل هذه الأجساد الضئيلة النحيلة من الأطفال الذين يموتون في اليمن يكفي للشعور بالاشمئزاز.

طلحة عبد الرزاق

لكن المأساة الإنسانية الكاملة التي حلَّت باليمنيين نتيجة التدخُّل العربي الذي شمل قطر في إحدى الفترات، ونتيجة أفعال إيران والحوثيين- لا تقلُّ شيئاً عن كونها كارثة تتطلَّب انتباهاً دوليّاً.

قالت إحدى المؤسسات الخيرية الرائدة إنه خلال السنوات الثلاث الأخيرة ،حتى نوفمبر/تشرين الثاني من هذا العام، مات في اليمن 85 ألف طفل بسبب سوء التغذية، إن موت طفل واحد فقط من الجوع هو أمرٌ مؤلمٌ بما يكفي، لكن مجرد محاولة تخيُّل كل هذه الأجساد الضئيلة النحيلة يكفي للشعور بالاشمئزاز، كلُّ هذا بالطبع دون أن ننسى العشرة آلاف قتيل الذين سقطوا نتيجة هذه الحرب.

كيف يمكن إذاً للحرب في اليمن أو لمقتل خاشقجي أن يكونا قضيتَي شأن سعودي داخلي؟ الإجابة بالطبع أنهما ليستا قضيتي شأن داخلي، ويجب على العالم حلُّ الأزمة الإنسانية في اليمن وأزمة العدالة التي تشهد أن الجناة الحقيقيين وراء مقتل خاشقجي هاربون من العدالة حتى الآن.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي