تابعنا
لا مكان لهم فيما حسبوه فردوساً أرضياً، عليهم البقاء بعيداً، ربما في جزيرة نائية لا يقطنها بشر. إنه جواب إسكندنافي جديد على مسألة اللاجئين الشائكة، فالحكومة الدانمركية وجدت ضالّتها في أسلوب "الجزيرة السجن"، وهنالك مزيد من البشر سيتم "شحنهم"إليها.

من تطأ أقدامهم جزيرة ليندهولم غير المأهولة الواقعة في خليج بحر البلطيق سيكتشفون أنها ليست مخصصة للبشر أساساً؛ وإنما تضم بعض الإسطبلات ومحرقة للحيوانات المصابة بالعدوى. لكنّ المكان النائي قد يصير مختبراً لأوروبا التي ستلاحظ هذه التجربة المكرّسة لتصريف بعض طالبي اللجوء المنبوذين بعيداً عن المشهد.

لن تكون ليندهولم غوانتانامو أوروبا، لكنّ أسلوب النفي إلى سجن مفتوح أو الجزيرة السجن يستثير ذكريات مرعبة ارتبطت بأنظمة شمولية وفاشية وعنصرية واستعمارية داخل أوروبا وخارجها. يقضي القرار الحكومي الدانمركي بإسكان قسري لعدد من طالبي اللجوء الذين تم رفض طلباتهم وتتعذّر إعادتهم إلى حيث أتوا، ومعهم مقترفو جرائم وافدون أيضاً.

خطوة الدانمرك الجديدة هي بمثابة تطبيق أوّلي لمقترحات تردّدت في دول أوروبية عدة بافتتاح معسكرات لعزل طالبي اللجوء داخلها، وأثارت انتقادات متعددة في حينه. لكنّ كوبنهاغن تجترئ الآن على تنفيذ ما لا يمكن تصوّره في دول أوروبية أخرى، وقد يصير مع الوقت أسلوباً تستسيغه حكومات أخرى. ومع ذلك؛ لا تبدو الخطوة جديدة تماماً في الدانمرك التي اعتادت نقل بعض طالبي اللجوء المبحرين إلى جزر يمكثون فيها تمهيداً للبتّ في أوضاعهم.

يأتي أسلوب "الجزيرة السجن" أو "الجزيرة المنفى" حلقة في سلسلة من مشروعات القوانين والإجراءات الحكومية التي شهدتها الدانمرك منذ مطلع القرن الجاري؛ وهذا تحت تأثير اليمين المتطرف الذي يمثِّله حزب الشعب المشارك في حكومات متعاقبة. وتشمل القائمة، مثلاً، الحدّ من مُدد زيارة أبناء المهاجرين مواطن آبائهم، وقيوداً وإجراءات أخرى تتعلّق بالمسلمين تحديداً، مع نبرة خطاب متشنجة لا ترحِّب بالتنوّع الثقافي. واقترحت الحكومة الدانمركية قبل ثلاث سنوات نزع أي مقتنيات ثمينة تجدها في حوزة اللاجئين خلال عبورهم البلاد ومصادرتها منهم، وهو إجراء أعاد إلى أذهان الجمهور سلوكاً مارسته السلطات النازية خلال الحرب العالمية الثانية.

إنّ تجميع طالبي اللجوء في معسكرات هو محاولة لاحتواء مأزق صنعته السياسات المتشددة لبعض الدول الأوروبية في التعامل مع المهاجرين.

حسام شاكر

إنّ تجميع طالبي اللجوء في معسكرات مغلقة أو جزر نائية هو محاولة لاحتواء مأزق صنعته السياسات والإجراءات المتشددة التي تنتهجها بعض الدول الأوروبية في التعامل مع طلبات اللجوء. فقرارات الرفض المتزايدة ومدد الانتظار الطويلة التي يعانيها هؤلاء تتسبّب في تكدّس أعداد منهم دون أن تتوفّر فرص لإعادتهم إلى حيث أتوا لاعتبارات قانونية أو سياسية أو واقعية. ولم تكن الدانمرك وجهة بارزة للاجئين خلال موجة التدفقات الكبيرة في السنوات الأخيرة، لكنها ممرّ تقليدي إلى دول الشمال الإسكندنافية، خاصة السويد، وقد يعلَقون فيها دون أن ينجحوا في مواصلة رحلة المتاعب نحو أرض موعودة.

كان لخطوة دانمركية كهذه أن تُشعِل في زمن مضى جدلاً عبر القارّة عن مدى توافق السياسات والقرارات الحكومية مع التزامات حقوق الإنسان وكرامة البشر ومعايير اللجوء العالمية أيضاً، لكنّ الزعماء الشعبويين صاروا يتصدّرون مواقع القرار في دول أوروبية، وهم يُراهنون على اقتطاع حصة وافرة من مقاعد البرلمان الأوروبي بعد اقتراع الربيع المقبل. أمّا "ماما ميركل"، المستشارة التي اكتسبت لقبها الرؤوم هذا من قرارها فتح الحدود للاجئين العالقين في البرّ الأوروبي في خريف 2015، فعلى وشك الخروج من الساحة السياسية بعد أن عاقبها الناخبون الألمان في جولات متعاقبة رغم الاستقرار الاقتصادي والسياسي الذي تحقق في عهدها المديد.

الرسالة واضحة؛ وهي أنّ زمن الهواجس والتشاؤم الأوروبي لا يحتمل سياسات منفتحة. وبهذا فإنّ القرار الدانمركي يتماشى في روحه مع اتجاهات تفكير مسموعة في بلدان أوروبية عن أفضل الطرق للتخلّص من اللاجئين وسدّ الأبواب في وجوههم، فعلى هؤلاء "أن يشعروا بأنهم غير مرغوب فيهم"، كما جاء في تغريدة أطلقتها إنغي ستوبيرغ، وزيرة الهجرة الدانمركية المحسوبة على أقصى اليمين. إنّ تعبيرات ستوبيرغ تعزِّز الانطباع بأنّ أسلوب النفي إلى الجزيرة المهجورة ينطوي على إساءة مقصودة تحطّ من الكرامة الإنسانية لطالبي اللجوء هؤلاء ممّن تم رفض طلباتهم أو من مرتكبي الجنح أيضاً. وفي النفي الجغرافي ما يحاكي مفهوم الإخراج من "الفردوس الأرضي" الذي نشده هؤلاء اللاجئون أساساً قبل أن يكتشفوا الحقيقة.

تأتي خطوة نفي المهاجرين إلى الجزيرة تعبيراً جديداً عن هيمنة أقصى اليمين السياسي على عمل الائتلاف الحكومي في الدانمرك.

حسام شاكر

تأتي هذه الخطوة تعبيراً جديداً عن هيمنة أقصى اليمين السياسي على عمل الائتلاف الحكومي في الدانمرك، خاصة فيما يتعلق بشؤون المهاجرين واللاجئين والمسلمين. فمنذ مطلع القرن الجاري رسّخ "حزب الشعب الدانمركي" الواقف على أقصى اليمين موقعه، وشارك في ائتلافات حكومية متعاقبة بما فيها الحكومة الحالية وكانت له فيها كلمة مسموعة وقوّة مرجِّحة، وهو ما يشير إلى نفوذ هذا اللون من الأحزاب وقدرتها على فرض أولويات معيّنة على الساحة السياسية والتحكّم في بعض اتجاهات الجدل العام في بلادها.

وما يُقال في كوبنهاغن يُسمَع ما هو أقسى منه في عواصم أوروبية، من قبيل إنّ "الحياة الجميلة بالنسبة للاجئين غير الشرعيين قد انتهت"، بتعبير وزير الداخلية الإيطالي ماتيو سالفيني، الذي باشرت الحكومة الشعبوية التي ينتمي إليها صد مراكب اللاجئين عن السواحل الإيطالية الممتدة. ويقف سالفيني أيضاً على رأس حزب "الرابطة" اليميني المتطرف والذي كان يعمل حتى سنوات مضت على انفصال الشمال الإيطالي، أو إقليم "بادانيا"، عن عموم البلاد.

وإلى الشمال من إيطاليا تستقرّ حكومة نمساوية تضمّ أقصى اليمين أيضاً الذي صعد بشعارات معادية للاجئين ومناهضة للإسلام. وإن كانت أوروبا قد انتفضت سنة 2000 في وجه فيينا عندما تَشَكّل ائتلافها الحكومي الذي ضمّ حزب الحرية اليميني المتطرف ذاته؛ فإنّ الزمن قد تغيّر الآن وصار أقصى اليمين شريكاً مستساغاً في الرواق السياسي الأوروبي ويَظهر مزيد من وجوهه في "الصور العائلية" المحفوفة بالابتسامات في اجتماعات القمّة ليندهولم..جزيرة المنبوذين في أوروبا.إنه رواق أوروبي منشغل منذ سنوات بخيارات التخلص من اللاجئين بعيداً عن القارة، حتى وإن كان ذلك في جزيرة نائية مخصصة للمختبرات الحيوانية، اسمها ليندهولم.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً