تابعنا
بالرغم من الخطر الشديد الذي تشكله جائحة فيروس كورونا، إلا أن الكثير من اللاعبين في الشرق الأوسط يصرّون على الاستمرار في سياساتهم المزعزعة للاستقرار وهو ما يعرّض ملايين الأشخاص لخطر الإصابة بالفيروس.

أعتقد أن قلة قليلة حول العالم كانت تعي جيداً خطورة فيروس كورونا المستجد منذ البداية، الذي تحوّل لاحقاً وبشكل سريع إلى جائحة عالمية. لم يكن أحد يتصور أن يصل الأمر إلى هذا السوء. لم يكن أحد يتصور أن يضع هذا الفيروس ما يقرب من ثلاثة مليارات إنسان في الحجر المنزلي، كأنه يسعى إلى إفراغ الكوكب من سكانه، وأن يتسبب في كل هذا الفزع الذي ضرب الجميع بلا استثناء.

لا شك أنه في بعض المناطق كان حضوره أسوأ من مناطق أخرى، فبعد أن عصف بالصين، وهي دولة المنشأ، قصد الفيروس أوروبا فأصابها بما يشبه المقتل، ويعمل حاليّاً على شل الولايات المتحدة الأمريكية، فآخر الأنباء التي تأتي . سواء من أوروبا أو أمريكا بخصوص انتشار فيروس كورونا المستجد صادمة فعلاً.

كيف سيكون العالم بعد هذه الجائحة؟ لا أحد يدري على وجه التحديد، ولكن ما هو مؤكد أن العالم بعدها لن يكون تماماً كالعالم قبلها.

سوف تُحْدِث هذه الجائحة تغيرات عميقة في تصور الإنسان لواقعه، الأمر الذي سينجم عنه تغيير في كثير من السياسات، فإيطاليا والمجر على سبيل المثال بدأتا تنظران بشكوك إلى علاقتهما مع أوروبا التي تأخرت وتلكأت في تقديم المساعدة لهما، على عكس الصين التي كانت مبادرة بشكل سريع وعاجل.

في منطقة الشرق الأوسط، ربما كانت الصورة مغايرة، فهذه الجائحة، التي قد تؤثّر بشكل جوهري على سياسة التوازن الدولية، وتعمل على تغيير سياسات بعض الدول الكبيرة كإيطاليا، قد تمرّ على دول الشرق الأوسط دونما تغيير يُلحظ، خصوصاً في ما يتعلق بالنزاعات والصراعات والحروب التي تضرب كثيراً من مناطقه الرئيسية.

لقد تبدت بوادر عدم التغيير هذه في المنطقة باكراً جدّاً، ففي الأزمة الليبية، على سبيل المثال، لم يلتفت خليفة حفتر إلى الخطر الذي يتهدد جميع الليبيين في حال انتشار فيروس كورونا في البلاد، وهي التي تعاني من بنية صحية متداعية جرّاء حالة عدم الاستقرار التي تعصف بالبلاد منذ عشر سنوات، وجرّاء القصف العشوائي الذي تمارسه قواته منذ سنوات عدة خصوصاً على العاصمة طرابلس.

لقد حاول حفتر اغتنام أن المجتمع الدولي منشغل في التصدي لفيروس كورونا ليقوم بشن العديد من العمليات العسكرية على طرابلس عبر عدة محاور، وهو بذلك يمارس جريمة بحق الإنسانية ضد الليبيين.

إذا ذهبنا شرقاً نجد أن الحرب الدائرة في اليمن منذ خمس سنوات ما زالت مستمرة. لقد حوّلت هذه الحرب، التي تشنّها السعودية تحت ذريعة استعادة الشرعية التي اغتصبتها جماعة الحوثي، اليمن إلى أكبر مأساة إنسانية عرفها العالم في العقد الأخير. وبسبب هذه الحرب، فإن اليمن على الجانب الصحي غير مهيَّأ أبداً للتعامل مع انتشار فيروس كورونا، ليس فقط بسبب فقر المرافق الصحية، بل أيضا بسبب المجاعة التي تضرب البلاد، وسوء التغذية، وعدم توافر المياه العذبة لمئات الآلاف.

على الرغم من هذه الصورة القاتمة، فإن طرفَي النزاع ما زالا مصرين على استمرار القتال والتسبب في المزيد من المعاناة على المدنيين. فجماعة الحوثي أطلقت مساء يوم السبت 28 مارس/آذار 2020 صاروخين باليستيين باتجاه العاصمة السعودية الرياض، في حين قامت طائرات التحالف السعودي-الإماراتي بشنّ عدة غارات على العاصمة صنعاء استهدفت بعض المواقع العسكرية التابعة للحوثي.

إن ما يحتاج إليه اليمن واليمنيون اليوم هو وقف فوري لإطلاق النار، وتخصيص جميع الموارد من أجل التصدي لفيروس كورونا حتى لا يفتك بالبلاد، ومساعدة المواطنين هناك على تخطي الأزمة الإنسانية التي يعيشونها.

ليس بعيداً عن اليمن، وفي شبه الجزيرة العربية، يتبدى بعض المشاهد السريالية. فمملكة البحرين رفضت مؤخرا استعادة 31 مواطناً بحرينيّاً عالقين في مطار الدوحة على متن طائرة خاصة، دون أن تتحمل البحرين أو الأفراد المعنيون تكاليف الرحلة. لا أحد يدري سبب هذا الرفض بشكل حقيقي، وهو ما ظهر بشكل كبير من خلال منصات التواصل الاجتماعي التي تبادل فيها الناشطون منشورات تتساءل عن هذا الموقف غير المبرَّر.

وبعيداً عن البحث في الأسباب، تدل هذه الحادثة على العطب العميق الذي أصاب منظومة مجلس التعاون الخليجي، إذ غابت عنه منذ فرض حصار قطر قبل ثلاث سنوات ونيف أي سياسات تعاونية أو تنسيقية من شأنها أن تعالج التحديات الخطيرة التي تعصف بالمنطقة.

إن واحداً من أبرز الدروس التي ربما تعلّمنا إياها جائحة كورونا هو أن التصدي لها يحتاج إلى تضفر الجميع، وإشاعة روح التعاون والتنسيق المتبادل. إنها فرصة لإظهار حقيقة السياسية التبادلية في أبهى صورها. ولكن يبدو أن دول مجلس التعاون الخليجي -أو غالبيتها- لم تعِ الدرس جيداً، وبدلاً من الشروع في برامج تشاركية للتصدي لفيروس كورونا، دخلت في مماحكات صبيانية كتلك التي قامت بها المنامة مؤخراً.

أخيراً، إن التصدي لهذا الفيروس يُعتبر عملية متعددة الأوجه، لا تكتفي بأجهزة التنفس الصناعي أو اللقاحات، بل يحتاج إلى توعية حقيقية، ومشاركة المعلومات بشفافية، وهو الأمر الذي لم تتبعه غالبية دول المنطقة.

فالسلطات المصرية اتسمت بحالة من التجاهل في بداية انتشار فيروس كورونا، واعتمدت على الأكاذيب لتضليل الرأي العامّ، والقمع من أجل التستُّر على حالة تفشِّي المرض في البلاد. وفيما كان السياح العائدون من مصر يُشخَّصون على أنهم مرضى بفيروس كورونا، كان نظام السيسي يُصِرّ على أن البلاد خالية من الإصابات.

وفي بلد يعاني من كثافة سكانية عالية جدّاً، وتهالك البنية التحتية والمرافق الصحية، فإن هذا التستر وهذه السياسة غير الشفافة، من شأنه أن يضرّ بالبلاد بشكل كبير. بالأخير انصاعت السلطات المصرية لحكم الأمر الواقع، وبدأت بعض الإجراءات الوقائية، وأفصحت عن بعض الأرقام (عدد الإصابات 576، وعدد الوفيات 36)، لكن هذا يُعَدّ دون الحد الأدنى من الإجراءات التي يجب أن تُتبع.

أما في إيران فقد نزع النظام هناك إلى تبنِّي نظرية المؤامرة واعتبار فيروس كورونا هجوماً بيولوجيّاً من قبل الولايات المتحدة لزعزعة استقرار الجمهورية الإسلامية. وقد وصل الأمر إلى رفض السلطات الإيرانية دخول مجموعة من الأطباء التابعين لمنظمة "أطباء بلا حدود" إلى أراضيها خوفاً من أن يكونوا جواسيس للولايات المتحدة، هذا فضلا عن بعض الخرافات التي انتشرت على لسان أعلى القيادات الإيرانية مثل المرشد الأعلى علي خامنئي الذي اعتبر أن بين الجن والإنس تعاوناً في محاربة إيران بفيروس كورونا، وذلك في حديث متلفز له في ذكرى السنة الإيرانية.

هذا فضلاً عن العراق وسوريا. ففي العراق هناك تكهنات من زيادة حدة التوتر نحو مواجهة مفتوحة بين المليشات التابعة لإيران فيها مثل حزب الله العراقي والقوات الأمريكية. أما في سوريا فحدث ولا حرج. لقد دمرت المعارك الدائرة في البلاد هناك الغالبية المطلقة من البنية الصحية. ومع ذلك يحضر نظام الأسد لاستئناف القتال في إدلب الأمر الذي يفتح الباب أمام مزيد من المعناة لعشرات الآلاف من المدنيين.

توفّر منطقة الشرق الأوسط مثالاً مهمّاً لدراسة أثر الجوائح العالمية على منطقة تتسم بحالة من عدم الاستقرار. ستُظهِر لنا هذه الدراسة التأثير المتواضع لمثل هذه الجوائح على السياسات الواقعية المتبعة. فبدلاً من الذهاب نحو إنهاء النزاعات والتدبُّر في الوسائل التعاونية للحَدّ من أخطارها، يستمر الأطراف في سياساتهم العدائية والمزعزعة للاستقرار.

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.  

TRT عربي
الأكثر تداولاً