تابعنا
استمرارية غزة في المقاومة بأشكالها كافة تبقى مطلوبة بصرف النظر عن اتساع أو ضيق أهدافها، مع إطلاق مقاومة فاعلة في الضفة قد تهيئ الأجواء نحو بلورة مشروع وطني مقاوم ينتزع الحقوق الفلسطينية من المحتل ويصعّب تطبيع الدول العربية التي تحالفت مع الاحتلال.

تواجه المقاومة في قطاع غزة تحديات مضاعفة في هذه المرحلة في ظل استمرار فشل المصالحة الفلسطينية وتحمل حركة حماس وحدها عبء إدارة القطاع المحاصر إسرائيلياً ومصرياً والذي يتعرض لاعتداءات متكررة من قبل الاحتلال.

وزاد تعقيد الوضع هناك بعد كورونا، حيث ظهرت إصابات جديدة في القطاع ما استدعى حظراً شاملاً للتجول.

وأسفر العدوان الإسرائيلي عام 2014 على غزة عن تفاهم تهدئة بين الفصائل وجيش الاحتلال الذي أحدث دماراً هائلاً في البنية التحتية الفلسطينية، إلا أنه لم ينه الحصار ما أبطأ عملية إعادة بناء ما تهدم، ولم يستجب للمطالب الفلسطينية الاقتصادية في ظل تفاقم أزمة البطالة واستمرار أزمة الكهرباء وصعوبة التواصل مع العالم الخارجي بسبب حصار مصر من خلال المعبر البري الوحيد مع العالم العربي.

أقلمة الأولويات

عاش قطاع غزة بمساحته التي لا تتجاوز 360 كيلومتراً مربعاً معزولاً عن امتداده الفلسطيني في الضفة الغربية، وزهد الاحتلال فيه منذ زمن لدرجة أن رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق اسحق رابين قال ذات يوم "كم تمنيت أن أستيقظ يوماً فأجد قطاع غزّة وقد غرق في البحر". وما ذلك إلا بسبب وجود كثافة سكانية هي الأعلى في العالم، وتحفز الغزيين لمواجهة الاحتلال من خلال الانتفاضات والمقاومة الفلسطينية، ما جعل حكم إسرائيل لهم ذا كلفة عالية بشرياً وأمنياً.

وكانت أولوية الفلسطينيين قبل الانسحاب أحادي الجانب الذي قرره أرييل شارون في 2005 هي مقاومة الاحتلال لكن ضمن منهجين مختلفين لكل من حماس وفتح، الأول استراتيجي ضمن مشروع للتحرير الشامل، والآخر تكتيكي لتحقيق مكاسب سياسية تنتهي بقيام دولة مستقلة في مشروع التسوية السياسية (حل الدولتين).

وبعد انقسام 2007 وسيطرة حماس، توحدت الرؤية في هذه الرقعة الفلسطينية إلى مقاومة تحت رعاية سلطة مدنية ضمن مشروع سياسي يقوم على استخدام القوة ضد المحتل لتأكيد حق الفلسطينين في أرضهم ورفض استمرار التبعية للاحتلال والسعي للاستقلال الكامل عنه. وتضمن ذلك عمليات مقاومة نوعية أرهقت الاحتلال ونجحت إحداها في أسر جندي إسرائيلي (جلعاد شاليط) ومبادلته لاحقاً بمئات الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال.

وعانى القطاع من 2008 وحتى 2014 من ثلاث اعتداءات إسرائيلية طاحنة، دفعت إلى الأمام أولوية الإعمار ورعاية المصالح الفلسطينية وتحصيل حقوق فلسطينيي غزة اقتصادياً وسياسياً وجغرافياً في ضوء تردي الأوضاع المعيشية مقترنة بتخلي السلطة الفلسطينية عن مسؤولياتها عن هذه الرقعة الجغرافية واستمرار الاعتداءات الإسرائيلية.

تحسين الأحوال المعيشية

وهكذا نشأ في قطاع غزة حالة تختلط فيها المقاومة مع رعاية مصالح الناس، ولم يقتصر الأمر على المقاومة العسكرية التي تراجعت إلى حد كبير بعد تهدئة 2014، بل ابتدع الفلسطينيون المسيرات الجماهيرية الحاشدة مع المحتل على حدود القطاع، وأرفقوها بإطلاق البالونات الحارقة على المستوطنات المحيطة للضغط على الاحتلال لتخفيف حصاره، والسماح لدولة قطر بتقديم المساعدات وتشغيل محطة الكهرباء بالوقود اللازم بعد أن توقفت السلطة عن دفع أثمان الوقود لتشغيل المحطة.

لقد كبلت تفاهمات التهدئة يد المقاومة الفلسطينية ولكنها سمحت في المقابل لفلسطينيي غزة بالتقاط أنفاسهم وإعادة بناء ما تهدم في ظل إمكانيات ضعيفة لا تتحمل مزيداً من الدمار أمام عدو لا يرحم ويتعمد إلحاق الأذى بالبنى التحتية رداً على أي عمل مقاوم يعجز عن مواجهته.

ورغم محاولة المقاومة التخلي للسلطة الفلسطينية عن إدارة القطاع في 2017، بحلّ اللجنة الإدارية فيه وتسليمه لما يسمى بحكومة الوفاق، واستعداد الحركة للمشاركة مجدداً بحكومة وحدة وطنية، تشارك فيها الفصائل الفلسطينية كافة، وفق اتفاق القاهرة 2011 ، إلا أن السلطة نكصت عن استلام مهامها رغبة في الضغط على حماس لتسليم سلاحها، الأمر الذي أبقى أمر إدارة القطاع بيد حماس.

ولم يكن أمام هذه الحركة الفلسطينية إلا الاستمرار بمسؤولياتها مع تمسكها بالمقاومة في معادلة تقتضي الموازنة الدقيقة بين حق المقاومة وبين إدارة مصالح الشعب وتأمين معيشة كريمة وآمنة له.

قد يرى البعض أنه من المستحيل الجمع بين الإدارة المدنية والمقاومة، لأن ذلك يتطلب سيادة غير موجودة على الأرض وسيطرة على الحدود واقتصاداً قادراً على الصمود بما يتطلبه ذلك من عمل سياسي يحمي المقاومة ويدعمها في رقعة جغرافية صغيرة ومحاطة باحتلال ودولة عربية تتكامل معه لحصار الفلسطينيين. إلا أن التجربة والممارسة أثبتت أنه من الممكن الجمع بين الإدارة والمقاومة، ولكن ليس المقاومة المسلحة المطلقة بدون قيود أو ضوابط أو أهداف، ولذلك جاءت فكرة المقاومة بالمسيرات الجماهيرية بدلاً من المقاومة المسلحة لتحصيل الحقوق والمطالب الفلسطينية.

ولا تتعارض هذه المعادلة القائمة مع مبدأ المقاومة بشموليته، ولكنها تستدعي تقليص أو تجميد المقاومة المسلحة التي تستدعي في حال إطلاقها على مصراعيها التخلي عن الإدارة المدنية الكاملة وتحميلها للاحتلال، وجعل المقاومة في حل من أي التزامات مدنية قد تعيق تحقيق أهدافها.

مصالحة مستحقة لرعاية المقاومة

والحق أن مشروع المقاومة يشهد تراجعاً على الأرض في الضفة بسبب التعاون الأمني بين السلطة الفلسطينية والاحتلال، وتجميداً في القطاع مع أنه لا يزال يمتلك قدرات عسكرية جاهزة للرد على أي اعتداء إسرائيلي ما يجعل وظيفته هناك دفاعية وليست هجومية كما كانت في السابق.

ويشكل ذلك حالة غير مسبوقة في النضال الفلسطيني، وما ذلك إلا بسبب الانقسام الذي تتحمل مسؤوليته سلطة كرست نفسها لخدمة الاحتلال في اتفاقيات مذلة لم يجن الشعب الفلسطيني منها شيئاً ووضعت مقاومته بين سندان الاحتلال ومطرقة سلطة تابعة له.

ولذلك لا بد من تحقيق المصالحة وفق رؤية سياسية تستند أساساً للمقاومة والتخلي عن التسوية السياسية التي لم تسفر إلا عن صفقة قرن والاعتراف بالقدس عاصمة للاحتلال وإفساح المجال لإسرائيل لضم ما تبقى من الأرض الفلسطينية.

ويحبط ذلك مخطط إسرائيل للاستفراد بطرفي المعادلة الفلسطينية ومحاولة الوقيعة بينهما عبر عروض لغزة بعيداً عن السلطة (المطار والميناء مثلاً) وإحكام التعاون الأمني مع السلطة ضد حماس في الضفة.

مفترق طرق

لا شك أن المشروع الوطني الفلسطيني يقف على مفترق طرق، في ضوء الغطرسة الإسرائيلية في الداخل ومحاولة التمدد بالتطبيع في الخارج، وما لم يتم التوافق بين فتح وحماس تحديداً، فإن العدو سيحقق المزيد من الإنجازات السياسية والميدانية وستنساق المزيد من الدول العربية نحو عمليات التطبيع مع المحتل.

وبصرف النظر عن تحقق المصالحة أو عدمها، تستطيع المقاومة بغزة الاستمرار في المزج بين رعاية مصالح الناس وبناء القوة وتعزيز قدراتها القتالية والاستمرار في مشاغلة الاحتلال وإرباكه وجعله يأخذ مصالح الفلسطينيين بعين الاعتبار ودفعه لتخفيف الحصار عليهم.

إن استمرارية غزة في المقاومة بأشكالها كافة تبقى مطلوبة بصرف النظر عن اتساع أو ضيق أهدافها، مع إطلاق مقاومة فاعلة في الضفة قد تهيئ الأجواء نحو بلورة مشروع وطني مقاوم ينتزع الحقوق الفلسطينية من المحتل ويصعّب التطبيع على الدول العربية التي تحالفت مع الاحتلال.

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً