تابعنا
لم يعد الحديث عن دور وسائل التواصل الاجتماعي في تزييف وعي الناخبين وخداعهم في العمليات الديمقراطية أو الاحتجاجية مجرد حديث جانبي.

فمنذ تدخل جهات محسوبة على روسيا في الانتخابات الأمريكية عام 2016 التي جلبت للعالم واحداً من أكثر رؤساء الولايات المتحدة إثارة للجدل في العصر الحديث، أصبحت منصات السوشيال ميديا رأس الحربة والشغل الشاغل للخبراء والمختصين وصناع القرار.

لم يكن هذا التدخل في الانتخابات الأمريكية مجرد تخمينات إعلامية أو تسريبات استخباراتية. فمع تكشُّف فضيحة شركة كامبريدج أنلاتيكا المتخصصة في الاستشارات الإعلامية عام 2017، التي عملت من جهتها على توجيه الرأي العام الأمريكي لصالح الرئيس ترمب ضد منافسته الديمقراطية هيلاري كلينتون، من خلال العبث بأكثر من 50 مليون حساب جرى تسريب بياناتهم الشخصية بطريقة غير شرعية للشركة المذكورة، الأمر الذي سهّل صناعة إعلانات موجهة قادرة على العبث بقناعات الناخبين وتوجهاتهم السياسية.

منذ ذلك الوقت والتلاعب بقناعات الناس عبر حملات التضليل سواء من قبل الحكومات أو جهات خارجية يتطور بطريقة عجزت عن احتوائها شركات تكنولوجيا المعلومات المتضررة خصوصاً فيسبوك وتويتر على الرغم من كل الإجراءات والخطوات التقنية والاستباقية التي اتخذتها للقضاء عليها أو الحد منها على أقل تقدير.

لم تعد منصات التواصل الاجتماعي وسيلة للتواصل والبقاء على اتصال مع أفراد الأسرة والمقربين من الأصدقاء والمعارف، وهو الهدف الأساس الذي قامت عليه فيسبوك على سبيل المثال، بل أصبحت أداة في المعترك السياسي، ويجري العمل على توظيفها من أجل زيادة قوة أحد الأطراف على حساب خصمه. إن جلب هذه المنصات للحلبة السياسية كان السبب الجوهري في تحولها الوظيفي من مجرد أداة تواصلية إلى أداة سياسية وليس كما يدعي بعض الخبراء بأن السبب يكمن في البناء التقني لها والذي يسمح بتوظيفه لأغراض دعائية موجهة.

لذلك فإن مكمن الحل في التصدي لحملات التضليل التي باتت شائعة هذه الأيام التي أدخلت الفضاء العام في حالة من الخصومة السائلة فعملت من حيث ندري أو لا ندري على تعظيم التفكير بنظريات المؤامرة، يكمن في التوافق السياسي. ولعل ما يجري حالياً في تونس أوضح مثال على ذلك. فصعود المرشح الرئاسي قيس سعيد وحصوله على المرتبة الأولى في الجولة الأولى من الانتخابات التونسية التي جرت مؤخراً وما يدور حول هذا الصعود من أقوال غير مؤكدة حتى الساعة تدعي أن سبب هذا الصعود للرجل إنما بسبب حملات على السوشيال ميديا موجهة وممنهجة عملت على تلميعه للرأي العام التونسي.

إن الحل يكمن إذن في إعادة النظر بالسياق السياسي الذي أقحمت فيه منصات السوشيال ميديا. وربما يفتح هذا المسار توجهات من قبيل الذهاب نحو الاتفاق على ميثاق شرف يحدد الضوابط العاملة التي يجب أن تستخدم فيها السوشيال ميديا في المعترك السياسي، أو الإعلامي بشكل عام.

إن الاكتفاء بمحاربة خطاب الكراهية والإعلانات الموجهة والحسابات الوهمية لن يفي بالغرض على الرغم من أهميته، وهنا يمكن أن تكون مقاربة الحل شاملة. ويعني ذلك الجمع بين الإجراءات العامة التي يجب اتخاذها على نطاق الدول ومنظمات المجتمع الدولي ومنظمة الأمم المتحدة، جنباً إلى جنب مع الإجراءات التقنية التي تشمل ما أُشيرَ إليه من قبيل محاربة الحسابات الوهمية، كما جرى مؤخراً عندما أغلقت تويتر وفيسبوك آلاف الحسابات والصفحات الوهمية التابعة لمصر والسعودية والإمارات، التي كانت تستغل للترويج لحلفائهم الإقليميين مثل حفتر الذي يشن عمليات عسكرية على الحكومة الشرعية في طرابلس.

يأتي هذا الحديث في سياق الدراسة التي أفرج عنها مؤخراً مركز أوكسفورد للإنترنت والتي حملت عنوان The Global Disinformation Order 2019 Global Inventory of Organised Social Media Manipulation. وأبرز ما ورد في الدراسة أن حملات التلاعب بوسائل التواصل الاجتماعية المنظمة جرت في حوالي 70 دولة عام 2019، بينما جرت في 48 دولة عام 2018، و28 دولة في عام 2017. وأكد التقرير أنه يوجد في كل بلد على الأقل حزب سياسي واحد أو وكالة حكومية تستخدم وسائل التواصل الاجتماعي لتشكيل المواقف العامة والتلاعب بتوجهات الناس.

وأوردت الدراسة أن وسائل التواصل الاجتماعي ضُمنت كإحدى استراتيجيات الأنظمة الاستبدادية للنيل من خصومها. ففي 26 دولة تستخدم حكوماتها البروباغندا الرقمية كأداة للتحكم والتلاعب بالمعلومات لتحقيق ثلاثة أهدف مختلفة هي: قمع حقوق الإنسان الأساسية وتشويه سمعة المعارضين السياسيين وطمس الآراء المعارضة.

إحدى خلاصات الدراسة المهمة تتعلق بأن هناك العديد من الدول مثل الصين والهند وإيران وباكستان وروسيا والسعودية وفنزويلا تستخدم منصات فيسبوك وتويتر للتأثير الخارجي في جماهير الدول الأخرى. وهذا ما يطرح السؤال الجوهري المتعلق بما إذا كان هذا التأثير يشكل اعتداء مباشرة على سيادة الدولة، وهو ما يعد خرقاً جوهرياً للقانون الدولي.

وتتصدر الصين -حسب الدراسة- الدول التي تستخدم منصات التواصل الاجتماعي في عمليات التلاعب والتضليل على المستوى العالمي. وحتى بداية المظاهرات في هونغ كونغ كان تركيز الصين على حملات التلاعب على منصاتها الداخلية مثل Weibo وWeChat وQQ، ولكن بعد أحداث هونغ كونغ بات اهتمام الصين يشمل المنصات العالمية مثل فيسبوك وتويتر ويوتيوب. وهذا حسب الدراسة من شأنه أن يثير المخاوف نظراً إلى الإمكانيات الهائلة التي تضطلع بها الصين بهذا المجال.

وأخيرا أظهر التقرير أنه ومن بين جميع منصات التواصل الاجتماعي تبقى فيسبوك هي الأكثر عرضة لعمليات التلاعب، ظهر ذلك في 56 دولة من الدول التي شملتها الدراسة.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِّر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً