تابعنا
يبدو أن مكافحة "الإرهاب الأبيض" وخطاب الكراهية على شبكة الإنترنت يتعرض لصعوبات بنيوية تفرضها طبيعة الإنترنت والطبيعة السياسية العالمية المتمثلة في صعود اليمين.

يعود "الإرهاب الأبيض" ليضرب بقوة من جديد في الولايات المتحدة الأمريكية في ولايتي تكساس وأوهايو مسفراً عن عشرات القتلى والجرحى بمشاهد صادمة تقشعر منها الأبدان وتفزع منها كل النفوس السوية.

ومع هذه العودة يعود الربط مجدداً بين المتطرفين البيض وبين تكنولوجيا الإنترنت وتطبيقاتها التي يستخدمونها في الترويج لخطاب الكراهية لديهم والتحريض على الآخر.

في الحادثة الأخير برز مجدداً على الساحة موقع 8chan، وهو أحد تطبيقات الرسائل الإلكترونية المعروف بنموذجه الخاص في حماية الهوية بحيث يتمتع المستخدم بحرية كاملة في كتابة ما يشاء من غير الكشف عن هويته الشخصية أو أي بيانات تتعلق بخصوصيته وذلك خلافاً لمنصات التواصل الاجتماعي التقليدية مثل فيسبوك وتويتر التي تطلب من المستخدم الكشف عن هويته الحقيقية وإلا سيتعرض حسابه إلى منع الوصول أو الإغلاق.

قام المعتدي الذي نفذ عملية El Paso في تكساس بنشر رسالة من أربعة صفحات على موقع 8chan يدعو فيه أنصار اليمين المتطرف إلى الخروج والاقتصاص من المهاجرين والملونين. وهو بذلك يشابه ما فعله منفذ مجزرة المسجدين التي وقعت في نيوزيلندا في مارس/آذار الماضي، إذ قام باستخدام الموقع نفسه لنشر المانفستو الخاص به والذي يطفح كرهاً وحقداً على كل آخر لا ينتمي إلى العرقية البيضاء.

منذ فترة تحاول شركات تكنولوجيا المعلومات محاربة خطاب الكراهية والحد من انتشاره على الإنترنت، كما تحاول الحكومات والمشرعون العمل في الاتجاه ذاته من خلال الإجراءات التنفيذية والتشريعية، والتنسيق مع القطاع الخاص لاجتراح مقاربة قد تكون فعالة في الحد من هذا الخطاب الذي بات ينخر المجتمعات الغربية من الداخل ويدفع المراقبين لإطلاق نذر الخطر.

لم تسفر هذه الجهود عن نتائج ملحوظة على الرغم من النجاحات التي سجلت هنا وهناك، والسبب في ذلك لا يعود إلى التكتيكات المتخذة ولا إلى السياسات المتبعة من طرف هذه الجهات على وجه التحديد، بل يعود بالأساس إلى الاستراتيجيات الغائبة عن ذهنية صانع القرار لديهم إذ لا تتطرق هذه السياسيات والتكتيكات إلى جوهر المشكلة والذي يعود بالأساس إلى التضارب الحاصل بين طبيعة شبكة الإنترنت كمنظومة تقنية رياضية قائمة على اللا مركزية وبين فلسفتها التأسيسية القائمة على الحرية، هذا من جانب.

ومن جانب آخر هناك التزامن الحاصل بين تزايد هذه الهجمات الإرهابية التحريضية وبين صعود تيار اليمين المتطرف الشعبوي في العالم وليس في الولايات المتحدة فقط. فلا يمكن تصور نجاح جهود مكافحة خطاب الكراهية من خلال إحداث تغييرات متواضعة على بنية الإنترنت التقنية، أو ملاحقة هذا الخطاب بالمنع والحظر من غير التطرق إلى البيئة السياسية الحاضنة والتي تزداد انتشاراً، إذ تعمل هذه البيئة على تهيئة الظروف المناسبة اجتماعياً وفكرياً ونفسياً لانتشار هذه الظاهرة وجعل مكافحتها أمراً غاية في الصعوبة.

الحديث عن فشل مكافحة خطاب الكراهية تقنياً في ظل عدم الالتفات إلى اللحظة السياسية التي تحفزه يتأكد بالنظر إلى الحيل التي قد تستخدمها مواقع مثل 8chan للتحايل على محاولات إحباطها ومنعها من الظهور أونلاين على شبكة الإنترنت.

في البداية علينا التذكير بأن موقع 8chan هو النسخة الثانية من موقع 4chan، وقد أنشئ في العام 2013 على يد فريدريك برينان Fredrick Brennan وهو مطور برمجيات أمريكي الأصل مصاب بمرض هشاشة العظام ولا يتحرك إلا على كرسي عجلات. وقد أسس برينان الموقع مدفوعاً باعتراضه على سياسة موقع 4chan التي اتهمها أنها تتعارض مع حرية التعبير التي يكفلها الدستور الأمريكي.

إذن، كانت نشأة موقع 8chan مدفوعة بقيم مثالية قائمة على ضرورة الحفاظ على ذلك الحلم الذي بنيت عليه شبكة الإنترنت والذي تمثل في ضرورة توفير شبكة وفضاء إلكتروني يسهم في نشر الأفكار والبيانات بحرية تامة بعيداً عن سطوة المؤسسات التقليدية للمجتمع، التي تستطير عليها في المجمل لوبيات ونخب مدفوعة بتعزيز مصالحها الرأسمالية العتيقة.

بقي الموقع لفترة معينة مغموراً حتى عام 2014 عندما توافد عليه بعض مؤيدي مجموعة GamerGate، وهي مجموعة رجعية فضفاضة من لاعبي الفيديو المناهضين للنسوية، الذين كانت لهم اعتراضات على السياسات الجديدة لموقع 4chan المقيدة لحرية التعبير.

منذ تلك اللحظة أصبح موقع 8chan قبلة الجماعات الهامشية المتطرفة التي يجري إقصاؤها من المواقع الرئيسية على شبكة الإنترنت. فالموقع يستضيف أحد أكبر تجمعات مؤيدي QAnon وهي مجموعات تتبنى فكرة وجود بيروقراطية دولية تتأمر على الرئيس دونالد ترمب.

تعارض المآل الذي وصل إليه الموقع مع منطلقات مؤسسة برينان دعاه لتركه والدعوة لإغلاقه وهو ما لم يتحقق إلى أن وقعت حادثة El Paso في تكساس. عندها ومع تعالِي الصرخات ضد الموقع توجهت بعض الشركات المزوِّدة لخدمات الإنترنت إلى فرض الحظر على الموقع وحجب الخدمة عنه.

من هذه الشركات التي حاولت منع الوصول إلى موقع 8chan شركة Cloudflare التي توفر خدمة تحمي الموقع من التعرض للهجمات الإلكترونية، وشركة Voxility والمتخصصة بتوفير خوادم الكمبيوتر التي تشغل مواقع الإنترنت.

لم يخلُ تحرك هذه الشركات من انتقاد، فتحركها ضد موقع 8chan صاحَبه التردد بعض الشيء وذلك من منطلق أنه لا يحق منع الخدمة عن أحد العملاء لمجرد أنه يوفر منصة تسمح بحرية التعبير. بالأخير لا تلقي الشركات الربحية كثير اهتمام بالضوابط الأخلاقية إذا ما كانت مثل هذه الحرية سبباً في القتل الجماعي ونشر خطاب الكراهية.

الفكرة هنا أن سوق الإنترنت لا يقتصر على شركتي Voxility وCloudflare، فهناك العشرات إن لم يكن المئات من الشركات التي تقدم الخدمة ذاتها، ما يدفع القائمين على موقع 8chan والمواقع الشبيهة إلى التحايل والبحث عن البدائل مستفيدين من الخاصية اللا مركزية للإنترنت، وسيطرة القطاع الخاص القائم على الربحية على بنيتها التقنية.

وعندما نتحدث عن الخاصية اللا مركزية للإنترنت فإننا نتحدث هنا عن متاهة محيرة من الآليات التقنية لكل منها وظيفة مخصصة. فهناك شركات متخصصة في تقنية مسجلي المجال Domain Registers للتعامل مع أسماء مواقع الويب وعناوينها، وهناك شركات خدمات الاستضافة لتخزين البيانات وإرسالها، وهناك شركات الأمن للتعامل مع تدفق حركة المرور الإلكترونية والدفاع عن مواقع الويب ضد الهجمات السايبرانية. من هنا ندرك أن موقع الويب الواحد يمكن أن يعتمد على العشرات من الشركات المختلفة، ولكل شركة سياساتها وقواعدها الأخلاقية الخاصة.

في ظل هذه المتاهة تضيع المسؤولية، وتمنح خيارات متعددة وبدائل للتحايل على محاولات الحظر، لذلك تبدو محاربة خطاب الكراهية تقنياً مهمة غاية في الصعوبة، فما هو إلا بعض الوقت حتى يعود –ربما- موقع 8chan للعمل من الجديد، أو ربما يقومون بإنشاء موقع آخر يكون بؤرة استقطاب الحركات الشعبوية المتطرفة.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

يتحدث فريدريك برينان، مؤسس موقع imageboard 8chan، خلال مقابلة مع وكالة فرانس برس في مانيلا في 6 أغسطس/آب 2019. (AFP)
رد فعل امرأة بعد إطلاق نار جماعي على Walmart في El Paso ، تكساس، الولايات المتحدة الأمريكية، 3 أغسطس/آب 2019. REUTERS/Jose Luis Gonzalez (Reuters)
TRT عربي