تابعنا
يعود المجنّدون من الأطفال من تنظيم داعش إلى أوطانهم بمعدّلات مقلقة، بعد أن ارتكبوا أعمالا وحشية لا يتخيَّلها العقل. لكن إلى أي مدى ينبغي أن تُقلِقنا عودتهم؟
في عام 2017، شقَّ طفلٌ، لم يتعد عمره الثلاث سنوات، طريقه مُتعثِّراً عبر ملعبٍ مهجور. وما قد يبدو في بادئ الأمر بريئاً تحوَّل إلى ترويعٍ تقشعِر له الأبدان بعد أن التقطت الكاميرا وجهة الطفل الصغير، إذ كان يسير في اتجاه سجينٍ مُكبَّلٍ على الأرض مُقيَّدة يداه إلى بوابة الملعب.

وفي تحوُّلٍ يصعُب تصوُّره للأحداث، يرفع الطفل مسدساً صغيراً، ويُصوِّبه دون براعةٍ إلى رأس السجين، ويضغط الزناد.

في تكرار مختلف للقصة نفسها، يظهر الطفل البريطاني عيسى داري، البالغ من العمر أربع سنوات، في عام 2016، وهو يضغط على زر تفجير سيارة مُفخَّخة ليلقى أربعة سجناء حتفهم في الانفجار.

هذه ليست سوى قصتين فقط في سلسلةٍ من الإصدارات الدعائية، وربما الإرشادية، التي أطلقها تنظيم داعش الإرهابي، وتُظهِر الآلاف من الجنود الأطفال الذين كانوا يتدرَّبون لخوض حربهم المقدسة.

لكن الآن، يعود هؤلاء الأطفال إلى أوطانهم، ويجب أن نستقبلهم بصدرٍ رحب.

الخطر الأكبر الذي يواجه عودة هؤلاء الأطفال لا يكمن في الخطر الذي قد يُشكِّلونه، بل في عدم قدرتنا على إعادة إدماجهم.

جيليان هونشاك

بينما يفقد تنظيم داعش المناطق التي كان قد استحوذ عليها، أُرسل الآلاف من المقاتلين الأجانب التابعين للتنظيم (أي الأشخاص الذين سافروا من بلدانٍ أخرى للانضمام إلى التنظيم) إلى بلدانهم الأصلية.

ومن بين هؤلاء ما يزيد عن 4600 طفل، غالباً ما أحضرهم آباؤهم إلى هناك وخضعوا لعملية تلقين ونفَّذوا أعمالاً مرعبة مماثلة. جاء ما يقرب من نصف هؤلاء الأطفال من أوروبا، على الرغم من أنَّ أصولهم تمتد في جميع أنحاء العالم.

"لا أريد عودة هؤلاء إلى هنا"

الدول التي تواجه العائدين من تنظيم داعش حذرةٌ لأسبابٍ مفهومة. هناك مخاوف منطقية من أنَّ البالغين قد يعودون في بعض الحالات بنوايا خبيثة، أو حتى بأوامر من تنظيم داعش نفسه لغرض الهجوم. لكن في حين أنَّه من الشائع أن تواجه المجتمعات صعوبةً في إعادة دمج الجنود الأطفال، يبدو أن دعاية داعش قد حقَّقت هدفها الدقيق، إذ يبدو أنَّ الكثيرين يُفضِّلون ألا يعود أبناؤهم إلى أوطانهم على الإطلاق.

قال هانز جورج ماسن، مدير الأمن الداخلي في ألمانيا، في يناير/كانون الثاني: "علينا أن نعتبر أنَّ هؤلاء الأطفال يمكن أن يكونوا قنابل موقوتة".

لا يزال آخرون يجادلون بأنَّه لا يجب أن تعاني مجتمعاتٌ بأكملها بسبب أخطاء الآباء غير المسؤولين. ومع ذلك، فإنَّ الخطر الأكبر الذي يواجه عودة هؤلاء الأطفال لا يكمن في الخطر الذي قد يُشكِّلونه، بل في عدم قدرتنا على إعادة إدماجهم.

"أشبال الخلافة"

للأطفال دورٍ حاسم، إن لم يكن مصيرياً، في إستراتيجية بقاء داعش. وفي الوقت الذي يصلون فيه سن البلوغ، كثيراً ما تتزوَّج الفتيات ويُتوقَّع أن يحملن أطفالهن، في حين يتدرَّب الأولاد على القتال. لكن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد، إذ يتورَّط الأطفال في كلِّ جزءٍ من الصراع، كواعظين ومُنفِّذين لعمليات إعدام، وانتحاريين، ومحاور مركزية في الدعاية.

وعلى عكس الجنود الأطفال الآخرين، فإنَّ هؤلاء الأطفال ليسوا مجرد طُعم للمَدافع؛ فقد كان التنظيم صاخباً في استخدامهم بشكلٍ لا لبس فيه، بل وحتى بفخرٍ بذلك. يأتي تبريرهم لذلك من تحريفهم للمُعتَقَد الإسلامي بأنَّه عندما يصل الأطفال إلى سن البلوغ، يصبحون مسؤولين دينياً. بالنسبة لداعش، يعني ذلك أنَّ هؤلاء الأطفال ناضجين بما يكفي لخدمة الخلافة مثلما يفعل البالغون.

وبما أنَّ الأطفال لديهم مُعتَقَدات مُسبقة أقل، يُعتَقَد أنَّهم جنود أنقى وأفضل، وبالتالي يجب أن يكونوا مُشبَّعين تماماً بعقيدة التنظيم. يبدأ هذا قبل وقتٍ طويل من التدريب على القتال، مع برامج التعليم، وقصص قبل النوم التي تحتفي بـ"الجهاد"، والتعرُّض المُتكرِّر للعنف لإلغاء الحساسية منه.

هذا التشديد على الأطفال كمستقبلِ ما يُسمَّى بالخلافة يعني أنَّه سيولد الكثير منهم لآباءٍ أجانب داخل منطقة الحرب. في عام 2015، أشارت تقديرات مركز الأبحاث البريطاني كويليام، المُتخصِّص في مكافحة التطرُّف إلى وجود 31 ألف امرأة حامل في "الخلافة"، وهذا يعني ضمناً أنَّ العديد من البلدان ستواجه المزيد من الأطفال العائدين أكثر من الذين غادروا في بادئ الأمر.

سلاحهم، حلُّنا

المخاوف المُتعلِّقة بالأطفال العائدين ليست خاطئة تماماً. سوف يعاني الأطفال الذين تربوا في كنف داعش، معاناةً مريرة، في ظلِّ ضآلة أو غياب نظرة بديلة للعالم.

من الناحية البيولوجية، يمكن أن تُؤثِّر الصدمة التي تأتي من العيش والقتال في منطقة حرب على بنية الدماغ، وتشير أبحاث علم الجريمة إلى أنَّ المُتطرِّفين الشباب مُعرَّضون بشكلٍ خاص لخطر ارتكاب الجرائم في وقتٍ لاحق. ومع ذلك، ولهذا السبب بالضبط، بعيداً عن أيِّ خوفٍ أو قلق، يحتاج هؤلاء الأطفال إلى العودة إلى أوطانهم.

خصَّص تنظيم داعش قدراً هائلاً من الموارد لإعداد الجيل القادم من الجهاديين. وبدلاً من الخوف من هؤلاء الأطفال، من الأهمية بمكان أن ندرك إمكاناتهم في المساعدة في كسب المعركة ضد التطرُّف. يتمتَّع هؤلاء الأطفال بمعرفةٍ لا مثيل لها بمجتمع داعش يمكنها أن تُثري التدابير المضادة له. والأهم من ذلك، من خلال إعادة دمجهم، يمكننا تجريد التنظيم من البذور التي زرعوها للحفاظ على أجيال التنظيم.

هؤلاء الأطفال بالتأكيد ليسوا قضيةً خاسرة. تكون الأدمغة الشابة في مرحلة النضوج مُجهَّزةً بصورةٍ فريدة للارتداد من الصدمة عندما تُهيَّأ لها البيئة المناسبة. علاوة على ذلك، لديهم معرفة بالحياة اليومية في تنظيم داعش، وهي معرفة ليس لها نظير ويمكن أن تساعد في تطوير فهمنا الخاص للتنظيم. لكن إعادة دمج هؤلاء الأطفال يعني إعادة صياغة لكيفية فهمنا لهم.

يجب أن يشعر الجنود الأطفال بالتقدير في المجتمعات التي يدخلونها من جديد. أوصى مركز كويليام باتباع نهج "قائم على نقاط القوة" يدمج مهارات ومواهب هؤلاء الأطفال في المجتمع بدلاً من معاملتهم كمصدر خطر.

في عام 2015، أشارت تقديرات مركز الأبحاث البريطاني كويليام، المُتخصِّص في مكافحة التطرُّف إلى وجود 31 ألف امرأة حامل في "الخلافة"، وهذا يعني ضمناً أنَّ العديد من البلدان ستواجه المزيد من الأطفال العائدين أكثر من الذين غادروا في بادئ الأمر.

جيليان هونشاك

ومع ذلك، تزرع الروايات الموجهة إلى هؤلاء الأطفال جواً من الخوف من حولهم. وهذا سيؤدي حتماً إلى وصمهم، ورفضهم، وربما حتى تعرُّضهم للعقاب عند عودتهم، حسب أعمارهم. سيكون تأرجح الرأي العام واحداً من أهم التحديات التي سوف تعترض إعادة إدماجهم.

واجهت أستراليا، وهي واحدةٌ من الدول القليلة التي تحدَّثَت بصراحةٍ حول عودة ما يصل إلى 70 طفلاً، ردود فعل عنيفة من العامة. لا يشير العداء تجاه الأطفال العائدين، الذين وصفتهم سيدةٌ على الإنترنت بـ"المتدربين الأجانب الصغار الحقراء"، إلى مجتمعٍ مستعد للمساعدة في تحسين وضع هؤلاء الأطفال.

هذه مشكلةٌ خطيرة، لأنَّ مثل هذه الأعمال العدائية تُهدِّد بإصابة هؤلاء الأطفال بالصدمة من جديد، مما يُدمِّر إمكانية مداواتهم، ويبعدهم عن مجتمعاتهم الأم. مستقبلاً، يمكن لهذا الفشل في إعادة إدماجهم أن يدفعهم مباشرةً إلى أحضان المُجَنَّدين المُتطرِّفين المفتوحة لهم.

تتطلَّب معالجة هذه الوصمة إعادة التفكير في هوية هؤلاء الأطفال. يجب ألا يُنظَر إليهم على أنَّهم عراقيل، بل كمصدرٍ للمعرفة. هم ليسوا خطراً، بل ثروة. هم ليسوا مستقبل داعش، بل مستقبلنا.

تقع على عاتق المجتمع مسؤولية التأكُّد من أنَّ أطفاله يكبرون بصحةٍ جيدة وجاهزين لمستقبل مُشرِق. ويمتد ذلك إلى هؤلاء الأطفال، الذين مروا بأهوالٍ لا يمكن تصوُّرها، بغض النظر عن عدم الأريحية التي قد يبدو عليها الأمر.

وفقط بمجرد فهمنا لذلك يمكننا أن نُحوِّل "أعظم سلاح" لداعش إلى أعظم قوة لنا.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً