إحدى الآليات العسكررية الروسية تمر في شارع تفترشه متاريس اسمنتية.  (Yasuyoshi Chiba/AFP)
تابعنا

من الملاحَظ بعد مرور قرابة شهرين على بدء الأعمال القتالية، أن القوات الروسية منذ بدء غزوها لا تزال تعاني العقم والتخبط التكتيكي وسوء إدارة المعارك، وعدم القدرة على إيجاد الأساليب والخطط الناجعة لإحداث خروق نوعية تُحسَب لها على الجبهات والمحاور الكثيرة التي تم فتحها على الأراضي الأوكرانية، بخاصة في شمال البلاد (كييف وخاركيف وتشرنهيف وإربين وغيرها)، وهذا مردّه إلى عدة أسباب، أهمها ربما المفاجأة والخسائر الفادحة بالأرواح والمعدات التي تعرضت لها القوات الروسية على الجبهات والمحاور كافةً منذ بدء العمليات القتالية.

هذا فضلاً عن اتساع الجبهات والتعدد الكبير للمحاور التي فتحها الجيش الروسي منذ بدء العمليات والمقاومة الشديدة التي تَعرَّض لها من قبل القوات الأوكرانية، والخلل الذي أصابه في تغذية جهود الأنساق الهجومية وعدم القدرة على تعويض واستكمال نسبة تلك الخسائر، والضعف الظاهر واللافت في الإمدادات اللوجستية بأنواعها.

ولقد ساهم ابتعاد الجيش الأوكراني عن أساليب خوض المعارك الكلاسيكية والتقليدية (الدفاع من حالة التَّماسّ المباشر أو عدم التَّماسّ المباشر) في إحداث إرباك لدى القوات الروسية، هذا فضلاً عن لجوئه الناجح جدّاً إلى الدفاع المتحرك وأعمال الأكمنة والإغارات وخطوط الصدّ والإعاقة الموزَّعة في الجبهة والعمق التي استطاعت بفاعلية وقف زحف الجيش الروسي وكبّدَته الخسائر الكبيرة في العدة والعتاد. وقد استثمر الجيش الأوكراني في تحقيق هذا الاختراق من خلال الدعم العسكري المتواصل الذي يتلقَّاه من الغرب.

من كل ما تَقدَّم فالملاحَظ أن حسابات بوتين وقياداته العسكرية باءت بالفشل وباتت القوات الروسية كما شاهدنا مؤخراً مُجبَرة على أن تنسحب من العديد من المواقع التي سيطرت عليها سابقاً في الشمال الأوكراني وفي محيط (كييف وخاركيف وتشرنهيف وبوتشا وإربين).

وباتت القيادة الروسية السياسية والعسكرية تخفض سقف أهدافها وتبحث جاهدةً عن نصر معنويّ يحفظ لها ماء وجه جيشها الذي قد تجده في السيطرة المحتمَلة على كامل إقليم دونباس شرقيّ البلاد، أو في تركيزها الجهود على مدينتَي ماريوبول وأوديسا في جنوبيّ البلاد، والسعي للسيطرة عليهما أيضاً، والهدف كما بات معروفاً هو عزل الأراضي الأوكرانية عن سواحلها الواقعة على البحر الأسود وبحر آزوف، وإقامة جسر برّي يصل شبه جزيرة القرم وخيرسون وربما أوديسا وماريوبول مع إقليم دونباس والأراضي الروسية.

بكل الأحوال من المبكّر الحكم ولو على نجاح إعادة التموضع التكتيكي هذا، فمن خلال المتابعة الميدانية فالملاحَظ أنه رغم الدمار الكبير في المدن الأوكرانية، لا تزال القوات الأوكرانية تُلحِق خسائر كبيرة بالجيش الروسي الأكبر والأفضل تسليحاً، وتعوق تقدُّمه على عدة جبهات، وذلك باستخدام مختلف أنواع الأسلحة الدفاعية والتكتيكات العسكرية التي تعتمد غالباً على أعمال الكرّ والفرّ وحرب الأكمنة والإغارات.

أدّت العمليات الأوكرانية المضادة لدفع القوات الروسية إلى تنفيذ انسحابات تكتيكية كثيرة من عدة مواقع سيطرت عليها سلفاً لصالح القوات الأوكرانية، ولجوئها إلى اتباع سياسة الأرض المحروقة، وذلك باستخدام الطائرات الاستراتيجية وصواريخ "كينجال" فرط الصوتية وصواريخ "إسكندر"، وغيرها من الترسانات التدميرية.

بنظرة تحليلية، ومن خلال التحركات الميدانية الأخيرة والقصف الشديد والقراءة الدقيقة لخارطة العمليات، فالملاحَظ أن القوات الروسية بعد تعديل خططها في هجماتها الأخيرة وإدخالها أسلحة نوعية تدميرية جديدة أصبحت تركّز على تطبيق مناورات "الإحاطة والالتفاف" البعيدين، وذلك بهدف تطويق القوات الأوكرانية المتبقية في بعض مناطق إقليم دونباس والمناطق الشرقية، وذلك من خلال القيام بهجومين متعاكسين، الأول شماليّ شرقيّ انطلاقاً من ضواحي خاركيف وإقليم دونباس والثاني جنوبي انطلاقاً من خيرسون وماريوبول وزباروجيا، وفي حال التقاء المحورين تكون القوات الأوكرانية الموجودة في الأقاليم الشرقية قد حوصرت بشكل كامل.

بات من المعروف بعد مرور شهرين على هذا الاجتياح أن بوتين لن يتخلى عن غطرسته وسعيه العسكري لتحقيق أهدافه المعلنة وغير المعلنة منها، وهو على ما يبدو ماضٍ حتى النهاية لتحقيقها، فالمعركة بالنسبة إليه أصبحت معركة كسر للعظم بينه وبين الغرب وواشنطن وحلف الناتو، ولذلك فهو تدريجياً بات مستعدّاً لاستخدام أوراقه العسكرية كافةً والرمي بها على الساحة الأوكرانية، وأقصد هنا استعداده لاستخدام الأسلحة التقليدية وربما غير التقليدية لتحقيق تلك الأهداف.

بالطرف المقابل فمن الواضح أن واشنطن ومن خلفها الناتو والغرب باتوا بشكل أكيد يخوضون بالجيش الأوكراني وعلى جغرافيته حرباً بالوكالة مع روسيا، ويتجلى ذلك من خلال كل هذا الكمّ من الدعم العسكري والمادي والمعنوي اللا محدود للجيش والحكومة الأوكرانيَّين.

مما لا شك فيه أن القوات الروسية بعد فشلها وعجزها حتى هذا الوقت في تحقيق أهدافها الميدانية المرسومة التي أشار إليها الرئيس بوتين، قد باتت تعتمد أكثر على ارتكاب المجازر الدامية المعروفة عنها بحقّ المدنيين من خلال القصف العشوائي للبنى التحتية والأهداف المدنية، مثلما فعلت في بوتشا وإربين ومحطة قطار مدينة كراماتورسك، للضغط على الخاصرة الرخوة للحكومة الأوكرانية لدفعها إلى تقديم تنازلات. ولا شك أيضاً أن واشنطن والغرب في هذه الحرب قد اكتشفوا ووصلوا إلى ما يريدونه من خلال تقييم قدرات الجيش الروسي، واكتشاف سلبيات تكتيكاته وضعف قدراته العسكرية وطرق إدارته للمعارك واستنزافه لفترات قد تكون طويلة ومكلّفة أكثر مما يتوقعه الجميع.

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً