غالبية الآباء (73 في المئة) يرون عمر 12 سنة كمتوسط مقبول لاقتناء الطفل جهازاً محمولاً بينما يرى 45 في المئة أن السنّ المقبول لاقتناء مثل هذه الأجهزة هو 14 سنة. (Others)
تابعنا

لم يكن حدثاً منطقياً إطلاقاً، كانت ولادته طبيعية، وفي السنة الأولى من حياته كان يمارس أنشطته مثل أي طفل في سنّه. لسبب ما لدى عائلته، اعتاد أن يُمسك الهاتف ويلعب فيه لكي يتلهي. في الحقيقة، غالبية الأوقات كانت والدته تستعمل الهاتف المحمول من أجل إسكاته إذا بدأ البكاء. وهكذا مع الأيام اعتاد عليه بشكل كبير. وفجأة وفي سنته الثانية بدأت تظهر عليه أعراض مقلقة. ومع فحوصات الأطباء والمعنيين تبيّن أن الصبيّ مصاب بالتوحّد شديد الدرجة. لم يكن في العائلة تاريخ لهذا المرض. وكأنه سقط عليهم من مكان مجهول فجأة. بعد التحرّي، ذهب العديد من آراء المختصّين إلى أنّ أحد أبرز أسباب المرض الذي أصاب الطفل هو المكوث على الشاشة لأوقات طويلة.

بلا شك، تُعدّ دراسة الظواهر الناتجة عن تكنولوجيات تشهد تطوراً باستمرار، وبالتالي التواصل إلى نتائج حاسمة، أمراً في غاية الصعوبة. غير أنه وفي عصر الشاشة، فإنّ العديد من الظواهر السلبية قد باتت تبرز بشكل جلي خصوصاً عند الشرائح الضعيفة مثل الأطفال والمراهقين على وجه الخصوص. بطبيعة الحال، هناك العديد من الأسباب التي تقود إلى مرض التوحّد منها ما يكون وراثياً، فليست التكنولوجيا هي السبب الوحيد. ولكنها بلا شك من أبرز الأسباب ولذلك فالأمر مقلق لأن اعتمادنا على التكنولوجيا يتزايد بشكل مطّرد. وقد كانت تجربتنا في أثناء فترة جائحة كورونا أكبر دليل على ذلك.

تُشير العديد من الدراسات والأبحاث إلى أن الأبوة في زمن الشاشات الرقمية أصبحت واحدة من أصعب المهام في هذا الوقت مقارنة بأي وقت مضى. وتتميز هذه الصعوبة بأنها ذات أبعاد مزدوجة. فمن ناحية، هناك توجه متزايد لدى الأطفال للاعتماد على التكنولوجيا واستخدامها بكثرة سواء في أوقات الفراغ واللعب أو حتى في أوقات الدراسة مع تنامي مشاريع أتمتة النّظم التعليمية واعتماد الأجهزة اللوحية لتحلّ مكان الكتب رويداً رويداً.

من اللافت أن 12 في المئة فقط من الآباء من أيّد اقتناء الطفل ما دون 12 جهازاً ذكياً. (Others)

من ناحية أخرى، فاعتماد الأهل المتزايد أيضاً على التكنولوجيا من أجهزة محمولة ومنصات تواصل اجتماعي وغيرها أمر يضيّق هامش اهتمامهم ورعايتهم لأطفالهم والانخراط معهم في الأنشطة التي من شأنها أن تصقل شخصياتهم وتنمّي قدراتهم الذهنية والحركية.

لقد أصبح من الشائع أن تعطي الأم أو الأب الجهاز اللوحي للطفل من أجل إسكاته. وهنا لا أنسى كيف التهت أم عن طفلها وهو يبكي في أثناء رحلة في الطائرة لانشغالها الكبير في متابعة أمر ما على جهازها المحمول الأمر الذي كان مستهجناً للغاية من جميع المسافرين من حولها.

بطبيعة الحال، الأمر لا يتعلق بمجرد انطباعات هنا. بلغة الأرقام وحسب واحد من أبرز مراكز الإحصاءات في العالم فإن 71 في المئة من الآباء الذين لديهم أبناء تقلّ أعمارهم عن 12 عاماً قلقون إلى حد ما على الأقل حول الوقت الذي يمضيه أبناؤهم أمام الشاشات بما في ذلك 31 في المئة منهم قلقون جداً حول هذا الأمر. العديد من الآباء من لديهم أبناء في هذه الفئة العمرية يعتقدون أن أطفالهم يقضون الكثير من الوقت على الأجهزة اللوحية بما في ذلك الهواتف الذكية. هذا ويشعر الآباء عموماً بالقلق أيضاً من الآثار طويلة المدى للهواتف الذكية على نمو الأطفال. حيث يعتقد 71 في المئة أن أضرار الاستخدام واسع النطاق للهواتف الذكية من الأطفال الصغار تُعدّ أكبر من فوائدها، وهذه بلا شك نسبة كبيرة جداً.

تأتي هذه المخاوف في ظلّ شيوع استخدام الأجهزة المحمولة الذكية من الأطفال. على سبيل المثال، قال 80 في المئة من الآباء إن أطفالهم الذين تتراوح أعمارهم بين 5 و11 عاماً يستخدمون أو يتفاعلون مع الكمبيوتر اللوحي. بينما قال 63 في المئة الشيء نفسه عن الهواتف الذكية. الصدمة كانت عندما قال الآباء الذين لديهم أطفال تقلّ أعمارهم عن 5 سنوات إن ما يقرب من 50 في المئة منهم اعتاد على استعمال الأجهزة الرقمية والتفاعل معها.

وقد برز موقع YouTube كمنصة أساسية لكلٍ من الأطفال الصغار والكبار. يقول 89 في المئة من أولياء أمور الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 5 و11 عاماً إن أطفالهم يشاهدون مقاطع فيديو على YouTube، و81 في المئة ممن لديهم أطفال تتراوح أعمارهم بين 3 و4 أعوام و57 في المئة ممن لديهم أطفال في سنّ الثانية أو أقل. وعلى الرغم من أن غالبية الآباء الذين يستخدم أطفالهم موقع YouTube يُنسبون الفضل إلى المنصة للترفيه عن أطفالهم وتعليمهم، حسب التقرير، فإن غالبية هؤلاء الآباء قلقون بشأن تعرّض أطفالهم لمحتوى غير لائق على المنصة.

ولتتمة الحديث، فقد أظهر المسح الجانب الآخر من المشكلة وهو أن الآباء يمضون أوقاتاً طويلة على الأجهزة الرقمية أيضاً، الأمر الذي يجعل المشكلة عابرة للأجيال. فعند سؤال الآباء عن الوقت الذي يقضونه على الأجهزة الرقمية، قال أكثر من نصف الآباء إنهم يقضون وقتاً طويلاً على هواتفهم الذكية، في حين قال سبعة من كل عشرة إن انتباههم يتشتت بهواتفهم في أثناء قضاء الوقت مع أطفالهم.

ولتسليط الضوء على هذه المسألة الحساسة، أصدرت منظمة الصحة العالمية تقريراً يتضمّن العديد من التوصيات التي تتعلق بكيفية قضاء وقت صحي مع الأطفال. وبخصوص الأجهزة الرقمية، فقد كانت التوصيات صارمة. ممنوع منعاً باتاً منح الأطفال بعمر السنتين وما دون أي وصول إلى الأجهزة الرقمية، في حين السماح لمدة ساعة واحدة فقط يومياً لمن تتراوح أعمارهم ما بين 3 و4 سنوات. هذه اللهجة الحازمة من التقرير الأممي تدل على حجم الضرر الذي قد يسببه المكوث المطول للأطفال على الأجهزة الرقمية، الأمر الذي يشكّل عائقاً تجاه تطورهم في المجالات المعرفية والمهارات اللغوية وحتى الحركية.

عبّر الكثير من الآباء عن قلقهم من تأثير إدمان الشاشة على نظر الأطفال، وعدد ساعات نومهم. (Others)

بالعودة إلى المسح الإحصائي فإن غالبية الآباء (73 في المئة) يرون عمر 12 سنة كمتوسط مقبول لاقتناء الطفل جهازاً محمولاً بينما يرى 45 في المئة أن السنّ المقبول لاقتناء مثل هذه الأجهزة هو 14 سنة. من اللافت أن 12 في المئة فقط من أيّد اقتناء الطفل ما دون 12 جهازاً ذكياً.

في دراسة أخرى موزّعة حسب الفئات العمرية للأطفال من 6 إلى 14 سنة وجدت أن القاسم المشترك بينهم في الأنشطة التي يمارسونها على الأجهزة اللوحية هي مشاهدة الفيديوهات في المقام الأو، وتبرز هنا مشكلات المحتوى الضار فضلاً عن التنمّر الذي له انعكاسات شديدة السلبية على الأطفال تصل لحد الرغبة بالانتحار، واللعب في المقام الثاني، وتكوين الصداقات والتواصل مع الأقران في المقام الثالث. من الملاحظ أن هناك مساحة هامشية وضيقة جداً أُسندت لهذه الشاشات الرقمية في التعلّم أو إتمام الواجبات المدرسية.

هذه العادات من شأنها أن تجعل الأبوّة عملية صعبة ومثيرة للقلق. من بين أبرز الهواجس التي أثارها الآباء بناء على الدراسة المذكورة آنفاً هو تأثير إدمان الشاشة على تضييق وقت اللعب المتاح للأطفال. يعتبر غالبية الأباء أن هذه معضلة كبيرة تؤثر على النمو الحركي والذهني للطفل تليها مشكلة عدم تخصيص وقت كافٍ للعائلة. فالطفل المدمن على الشاشة يكون مشدوداً مع محيطه الخارجي على حساب البيئة العائلية، هذا فضلاً عن مشكلة الانتباه، حيث يرى الآباء أن إدمان الشاشة ينعكس سلباً على قدرة الطفل على الانتباه ويجعل من السهل عليه التشتت بحيث يدخل الآباء معهم في صراع وجدال وصدام من أجل إعادة التركيز إليهم وربما فرضه عليهم فرضاً، الأمر الذي يُحدِث توتراً بين الآباء والأبناء ما ينعكس سلباً على الأواصر الأسرية. كما عبّر الكثير من الآباء عن قلقهم من تأثير إدمان الشاشة على نظر الأطفال، وعدد ساعات نومهم.

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.



TRT عربي
الأكثر تداولاً