منذ أن شاعت مزاعم مارغريت تاتشر الشهيرة، "لا يوجد بديل"، أخذت التسريحات الجماعية للعمال تمزق الديمقراطيات الغربية. في السراء وفي الضراء، جرى تسريح الموظفين بشكل جماعي. في أوائل الثمانينيات، كان وقع الأمر قاسياً على العمال الصناعيين في الولايات المتحدة خصوصاً مع انهيار التصنيع.
اليوم، فإن التسريح الجمالي للموظفين في قطاع التكنولوجيا يثير الغضب أيضاً، حيث فقد أكثر من 159 ألف عامل في مجال التكنولوجيا وظائفهم في عام 2022، و78 ألفاً في يناير/كانون الثاني 2023 وحده. منذ عام 1996، عانى أكثر من 30 مليون عامل من التسريح الجماعي للعمال، وهو ما يمثل تقريباً خُمس القوة العاملة في الولايات المتحدة.
ما الذي يسبب هذا الوباء؟
رأسمالية المساهمين
يقال لنا إن التسريح الجماعي للعمال بالنسبة للاقتصاديات المتقدمة ينتج بشكل مباشر عن سببين هما العولمة والتكنولوجيا.
يقال إن التسريح الجماعي إنما ينتج مباشرة من المحركَين اللذين لا رجعة عنهما في الاقتصادات المزدهرة: العولمة والتكنولوجيا. تتنافس الشركات في الأسواق العالمية، الأمر الذي يخلق ضغوطاً تجاه ضرورة خفض التكاليف ما يجعل من القوى العاملة ذات الأجور المنخفضة في الدول النامية في وضعية تنافسية كبيرة.
لقد حذرنا من أن ترابط هذه الأسواق معاً بواسطة مجموعة واسعة من التقنيات التي تسمح بالتنسيق السريع والدقيق. ثمة وجهة نظر بأن الروبوتات والذكاء الاصطناعي يجعلان ملايين الوظائف قد عفا عليها الزمن، حتى تلك التي تتطلب شهادات جامعية. هذه هي توجهات الاقتصاد العالمي، ولا يمكن وقف عمليات التسريح الجماعي للعمال، بغض النظر عن مقدار الضرر البشري الذي تسببه.
تبدو هذه الرواية مقنعة وحتمية، لكنها بعيدة كل البعد عن الحقيقة. التسريح الجماعي للعمال ليس حتمياً، إنها نتيجة قرارات بشرية، مدفوعة بسياسات يتخذها البشر أيضاً، وليس الروبوتات. وفي حين أن هذه العملية تختلف من بلد إلى آخر، فإن المثال الأمريكي يفي بالغرض.
عندما أصبح رونالد ريغان رئيساً، في عام 1980، حمل معه اعتقاداً مستمداً من تاتشر يقضي بأن اللوائح الحكومية على الشركات الخاصة يجب أن تُلغى.
في أعقاب انهيار سوق الأسهم عام 1929 كانت إحدى القواعد الأولى التي جرى اتباعها حظر عمليات إعادة شراء الأسهم، والتي منعت الشركات من إعادة شراء أسهمها في السوق المفتوحة من أجل رفع أسعارها. في ذلك الوقت كانت عمليات إعادة شراء الأسهم تعتبر تلاعباً غير قانوني في الأسهم. سُمح بهذا الإجراء مرة أخرى، ففي عام 1982، شرعت وول ستريت في الضغط على الشركات لتمويل عمليات إعادة شراء الأسهم وإثراء المساهمين.
عندها، أصبحت عمليات التسريح الجماعي للعمال أسرع وأبسط طريقة لزيادة التدفق النقدي اللازم لإعادة شراء الأسهم. قبل رفع القيود التنظيمية، كان القانون لا يسمح باستخدام أكثر من 2٪ من أرباح الشركات لإعادة شراء الأسهم. اليوم، ما يقرب من 70% من أرباح الشركات تذهب إلى عمليات إعادة شراء الأسهم.
من الناحية العملية فإن كل تسريح جماعي يقابله عمليات إعادة شراء للأسهم كامنة في مكان ما في الخلفية. هذا هو الحال الآن في Google و Facebook و Microsoft، حيث تخلى عمالقة التكنولوجيا هؤلاء عن عشرات الآلاف من العمال في الوقت الذي بدؤوا يكافئون فيه مستثمريهم الرئيسيين بعشرات المليارات من الدولارات على شكل إعادة شراء الأسهم.
على نحو مماثل من حيث التداعيات السلبية، لا يوجد شيء حتمي فيما يتعلق بعمليات الاندماج والاستحواذ تلك التي تكون عادة مدفوعة بالديون. هذا خيار سياسي وليس ضرورة اقتصادية. عمليات الدمج بين الشركات هذه ستؤدي حتماً إلى المزيد من تراكم الديون على الشركات التي بدورها تؤدي إلى المزيد من عمليات التسريح الجماعي للعمال.
خذ تويتر مثالاً. اقترض إيلون ماسك ما يقرب من 12 مليار دولار لشراء شركة تويتر ثم وضع هذا الدين على حساب الشركة. قفزت مدفوعات ديون تويتر من 50 مليون دولار سنوياً إلى أكثر من مليار دولار. لتغطية هذا العجز المالي، اضطر ماسك إلى تخفيض القوى العاملة في تويتر بمقدار النصف.
هل يوجد بديل آخر؟
لكن أليس هذا يمثل قانون الغاب بالنسبة لقطاع الشركات؟ هل من الممكن حقاً أن تتنافس شركة عالمية ما بنجاح دون اللجوء إلى عمليات التسريح الجماعي للعمال؟
يظهر مثال من ألمانيا أنه كذلك.
ألغت شركة Siemens Energy، التي يعمل بها أكثر من 90.000 موظف، خطتها لعام 2020 لتسريح 3000 عامل ألماني خلال تخفيض القوة العاملة العالمية بمقدار 7800 موظف. بدلاً من ذلك، بعد مفاوضات مع نقابة IG Metall، وافقت الشركة على تقليل قوتها العاملة الألمانية فقط من خلال عمليتي الاستحواذ والاستنزاف. وبذلك لن يُجبر أي موظف على المغادرة، ولن يجري إغلاق أي منشأة في ألمانيا.
ومن المفارقات هنا أن اتفاقية التسريح غير القسري هذه أصبحت ممكنة بفضل نظام القرار المشترك الذي فرضه الأمريكيون على الصناعة الألمانية بعد الحرب العالمية الثانية. أرادت الولايات المتحدة حينها ترويض الدوافع الفاشية لهؤلاء العمالقة الصناعيين بينما تتفوق في الوقت ذاته على الاشتراكية السوفيتية فيما يخص الولاءات العمالية. هذا أدى إلى أن نصف المقاعد في مجالس إدارة الشركات الألمانية مليئة بالعمال وممثليهم النقابيين.
في حين أن هؤلاء العمال الذين جرى تمكينهم في عملية صنع القرار لا يسيطرون بشكل كامل على شركاتهم، إلا أنه بات لديهم قدر كبير من المدخلات والوصول إلى المعلومات. وكما نعلم جميعاً، فإن هذه السياسة لم تضر الشركات الألمانية فهي تتنافس بنجاح كبير في الأسواق العالمية.
إن سياسات التسريح الجماعي للعمال تتعلق حقاً بالسلطة، عندما يميل الميزان بشدة نحو رأس المال، كما هو الحال في الولايات المتحدة، تجري عمليات التسريح الجماعي للعمال دون تفكير متأنٍ هذه الأيام إذ تجري في الغالب برسائل بريد إلكتروني جماعية، مصحوبة أحياناً بدموع التماسيح من المديرين التنفيذيين الأغنياء الذين يتحملون "المسؤولية الكاملة". في ألمانيا، لا تزال النقابات تتمتع بالسلطة الكافية لإجبار الشركات العالمية على التفكير مرتين قبل المساس بقواها العاملة.
يذهب تأثير سياسة التسريح الجماعي للعمال إلى ما هو أبعد من الاقتصاد. أدى الفشل في توفير الاستقرار الوظيفي في العالم الغربي إلى رفض متزايد لنخبة الشركات الليبرالية. في الولايات المتحدة، هناك ارتباط كبير للغاية بين المناطق التي شهدت حالات تسريح جماعي للعمال وبين التخلي عن الحزب الديمقراطي الأكثر ليبرالية.
وخير مثال على ذلك مقاطعة مينغو، فيرجينيا الغربية، في قلب بلد الفحم. في عام 1996، حصل بيل كلينتون على 69% من الأصوات الرئاسية. ولكن بعد انخفاض عدد وظائف الفحم خلال ربع القرن التالي من 3300 إلى 300، حصل جو بايدن على 13.9% فقط من أصواته في عام 2020.
والأكثر إثارة للقلق، أن التسريح الجماعي للعمال يشكل خطراً واضحاً وقائماً على الديمقراطية. تعتمد مجتمعاتنا الديمقراطية الحديثة، إلى حد كبير، على الإيمان بأن الاقتصاد المفتوح سيوفر فرص عمل مستقرة للغالبية العظمى منا.
تسريح العمال الجماعي يقوض تلك الشرعية. لا يوجد حدث اقتصادي يضر بصحة ورفاهية العمال البالغين وأسرهم أكثر من المعاناة التي تسببها سياسة التسريح الجماعي للعمال.
عندما يعتقد العاملون أن المؤسسة السياسية والمؤسسية بأكملها غير قادرة على توفير الاستقرار الوظيفي، يمكن أن يخطر ببال أولئك الذين تضرروا فكرة خطيرة: لماذا لا نمنح المستبدين فرصةً إذا كان بإمكانهم المساعدة في تأمين فرص العمل؟
من الأفضل أن تكون هناك بدائل، وعاجلاً
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.