تابعنا
يُحدِث ولي العهد السعودي محمد بن سلمان تغييرات جوهرية في بنية الدولة السعودية لا تمس فقط سياساتها الخارجية بل مبادئها التأسيسية وعقدها الاجتماعي.

في العقود الماضية برز مفهوم "الدولة العميقة" للتعبير عن قواعد مهمة داخل المؤسسات الرئيسة في بلد ما، قواعد تأبى التغيير الجديد (غالباً تغيير ديمقراطي مدعوم شعبياً)، وبالتالي تشكل معضلة كبيرة لأي فريق يريد العمل والإنجاز؛ لأنه سيواجه تعقيدات كبيرة من القوى الداخلية المقاومة التي ترسّخت عبر عقود طويلة.

مفهوم الدولة العميقة يُطرح في حالة وجود فريق جديد منتخب ديمقراطياً ومختار شعبياً، جاء برغبة جماهيرية. وقد يكون جزء من حالة اختياره هو تعديل المسار، أو ضخ دماء جديدة أو عمل إصلاحات. لكن في كل الأحوال دون الإخلال بالأساس الشعبي والعملية الديمقراطية وثوابت العمل السياسي في الضوابط والتوازنات أو فصل السلطات، واستقلال القضاء وغيرها من قواعد العمل الديمقراطي في أماكن مختلفة في الأرض.

بالمقابل في نظام غير ديمقراطي ليس لديه آليات دستورية مستقرة ولا مؤسسات تمثّل الشعب والناس، ولا يوجد حالة انتخابات ولا برلمان شعبي، ولا شرعية شعبية بالمعنى العام، فإن الدولة العميقة قد تعني وجود قواعد راسخة موجودة في أكثر من مؤسسة تضمر روح المقاومة والمخاتلة، لكن هذه المرّة ليس على مجموعة جديدة منتخبة شعبياً وحزب فائز جديد في مؤسسات ديمقراطية، وإنما على فريق صغير جديد لا يحمل ذلك الرسوخ التقليدي في المؤسسات التي تسمى عادة بالدولة العميقة. كما أنه يفتقد إلى الحليف الشعبي الذي يحمله عادة أي فريق جديد جاء بانتخاب ديمقراطي واستفتاء شعبي أو ما شابهه. وهنا يبدو أننا أمام ظاهرة معاكسة: ظاهرة الدولة السطحية.

فما هي مظاهر الدولة السطحية؟

هي دولة لديها القوة بشكل مباشر، تدير كل الملفات بشكل واضح ولكن لديها صفات أخرى تجعلها سطحية.

الصفة الأولى: أن المجموعة التي تدير الملفات جديدة على العمل.. ليس لديها الخبرة ولا العلاقات ولا الرصيد القديم.

الصفة الثانية: أن المجموعة الجديدة تحتكر كل أشكال القوة وتلغي المعادلات والتوازنات القديمة في السلطة عن طريق جمع كل الخيوط في يد مجموعة وربما شخص واحد يدير الملفات. وبقدر ما يكون هذا تسهيلاً وتسريعاً للكثير من القرارات وتحاشياً للبيروقراطية، إلا أنه يحمل في طياته عنصراً خطيراً: عملية تسريع الاهتزاز بحكم اعتماده على عنصر واحد في الاستقرار، وهذا العنصر بطبعه غير مستدام وغير مستقر. فهو إذن تسريع للقرارات وتسريع للاهتزازات في آن واحد.

الصفة الثالثة: أن هذه الدولة السطحية ليست فقط تهمّش كل عناصر القوة التقليدية والقديمة الراسخة، بل تستفزّها وتتحرش بها، وتعتقلها وتهينها، وتعبث بكل تاريخها. وبالتالي تمهد، على المدى البعيد، لحالة جزْر مقابل هذا المدّ الجديد غير المدعوم تقليدياً، وغير المدعوم شعبياً أيضاً.

الصفة الرابعة لهذه الدولة السطحية هي أنها تفتقر للحاضنة الشعبية التي تمتلكها مجموعات جديدة حكمت حول العالم ديمقراطياً.

فبينما كانت دول كثيرة حول العالم تعوّض عن حداثة عهدها بالسلطة بالحاضنة الشعبية كونها مجموعات منتخبة شعبياً ولديها قوة وحضور شعبي جاءت بانتخابات حرة نزيهة وفي نظام ديمقراطي ومؤسسات منبثقة من إجراءات دستورية، أتت هذه الدولة السطحية -بالمقابل- عن طريق صدفة وارتباط بيولوجي محض وجينات. فهو طريق يفتقر إلى أبجديات الحاضنة الشعبية وللمشروعية التي يستطيع أن يتكئ عليها أي أحد أمام التحديات الداخلية للدولة العميقة وأمام التحديات الخارجية والابتزاز المالي والاقتصادي.

هذه الصفات الأربع تعني أن هذه الدولة السطحية بفريقها الصغير المحدود والمرتبط شخصياً بشخص واحد، والخائف بسبب حالات الفتك بكل المجموعات المختلفة، قد تقرر الانحياز لخيار يضمن لها الاستقرار على المدى البعيد ويضمن لها أيضاً الشرعية والحاضنة الشعبية.

كثير من الدول حول العالم حينما يفوز فيها حزب جديد نسبياً أو مجموعة غير تقليدية تلجأ للحاضنة الشعبية وتعمل على السند الشعبي وتقوية الجبهة الداخلية والقواعد الجماهيرية؛ لكي تتخذها درعاً حاجزاً صلباً لأن أهم معادلات القوة ذلك الحضن الشعبي والقاعدة والمشروعية المنبثقة من الناس.

لكن في حالة دولة غير ديمقراطية فإن التغييرات السريعة جداً والعنيفة جداً قد تنتج تغييرات كبيرة للغاية، لكنها سطحية وهشّة لأن هذه النوعية من التغيرات لكي تكون قوية وثابتة على المدى البعيد تحتاج إلى أجيال سياسية وعمليات ممنهجة تأخذ عقوداً من العمل والترسيخ.

فليس هناك من خيار لتعميق هذه الدولة السطحية سوى اتخاذ أحد الطريقين:

إما مضيّ وقت طويل وأجيال وعقود على هذه المجموعة أو الشخص الجديد، غير أن هذا الشيء لن يكون خياراً أبداً؛ لأن الوقت ليس عملاً بشرياً يمكن اختصاره وليس للناس دور فيه.

أو اللجوء للشيء الذي تلجأ إليه كل المجموعات الجديدة والأشخاص الجدد في العالم وهو تقوية الجبهة الداخلية واللجوء للشعب والناس. فهذه الطريقة تكون أيضاً فرصة لعمل تصالح شعبي عام، وتأسيس شرعية شعبية تعمّق هذه الدولة السطحية، وهذا الخيار، لحسن الحظ، لا يحتاج إلى عقود طويلة ولا يخضع لظروف قدرية محضة. بل هو خيار ممكن ومتاح ومجرّب، ومضمون, ولكن أكثر الناس لا يعملون!

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِّر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً