لوحة ضخمة في أحد شوارع بغداد تحمل صورة رجل الدين مقتدى الصدر (Others)
تابعنا

وظهر الغموض بصورة جليّة بعد أن قدّم أعضاء مجلس النوّاب من الكتلة الصدرية، وهم 73 نائباً، استقالاتهم الجماعية يوم 12 يونيو/حزيران 2022، وذلك لفتح الباب أمام الكيانات الأخرى لتشكيل الحكومة المقبلة.

وتُعاني العملية السياسية الآن، وبعد ثمانية أشهر من الانتخابات البرلمانية، من جملة تحدّيات، ربما، من أبرزها حتّى الساعة، فشل التفاهم بين القوى الفاعلة على شخصية رئيس الجمهورية القادم، وشكل الحكومة المقبلة ورئيسها. وقد ساهم الانكفاء عن العمل السياسي، وهو الخيار الذي فضله مقتدى الصدر، في تعميق الانسداد السياسي.

هذا فضلاً عن تنامي التناحر الداخلي ضمن غالبية المكوّنات التي تمثّل أطياف الشعب العراقي. وقد كان في السابق تناحراً خفيّاً، أو توافقياً، أما اليوم فقد اختلفت المعادلة وصرنا أمام تناحر حقيقي وعلني بين رفاق الأمس يمكن أن يجرّ البلاد إلى تحديات أمنية خطيرة تهدّد سلامة ووحدة العراق.

إن انسحاب الصدر من العملية السياسية يحمل في طيّاته جملة من الرسائل أو حتّى المؤشرات، من أهمها فشل التجربة الديمقراطية بدليل انسحاب الفائز الأوّل بالانتخابات (كتلة الصدر) بعد قناعتهم بعدم إمكانية تغيير الواقع السياسي العامّ، وأنهم لا يستطيعون تشكيل حكومة أغلبية وطنية في ظلّ عراقيل الكتل المنافسة، وتنامي الخلافات داخل مكونات القوى الممثّلة لما يُعرف بالبيت الشيعي بحيث وصلت إلى طرق مسدودة، وارتفاع منسوب اليأس من الإصلاح العامّ للدولة، وهو ما عزز قناعة الصدر بعدم إمكانية نجاح أيّ حكومة مع بقاء الأوضاع الحالية، لهذا آثر النأي بنفسه عن المشهد السياسي.

يرى بعضهم أن الصدر بخطوته هذه قد رمي الكرة بملعب الإطار التنسيقي بزعامة نوري المالكي لكشف قدراتهم الحقيقية على تشكيل الحكومة وإدارة البلاد دون مشاركة التيار الصدري. وبذلك قد يتوجه الصدر إلى المعارضة الشعبية وهي معارضة في جوهرها أقوى من المعارضة البرلمانية إذ يمكن للصدر تحريك الشارع خلال دقائق معدودات وعبر مواقع التواصل الاجتماعي.

ولحلحلة الانسداد السياسي العام أعلن تحالف "قوى الدولة الوطنية" برئاسة عمار الحكيم، وعضوية رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي، يوم 24 يونيو/حزيران 2022، بعد جلسة النوّاب البدلاء الطارئة، عن مبادرة للمرحلة القادمة، التي تقوم على مروحة من الركائز، من أبرزها اعتبار المرحلة القادمة انتقالية، تنتهي بانتخابات جديدة، يُتفق على مدتها، وتشكيل معادلة حكم وسطية متزنة، ومحلّ قبول إقليمي دولي، ومحلّ اطمئنان للقوى السياسية المشاركة وغير المشاركة بالحكومة، ضماناً لوحدة الصف الوطني، وإعادة ثقة الشارع بالعملية السياسية.

ويبدو أن مبادرة "تحالف قوى الدولة" تهدف إلى ترميم العملية السياسية لا إلى إنقاذ العراق، لأن مَنْ يُرِد إنقاذ العراق فعليه أن تكون مبادرته عامة لكل العراقيين في الداخل والخارج على أن لا يشترك فيها أيّ متورّط بالدم العراقي.

تأتي هذه المبادرة في وقت حذّر فيه صالح العراقي، المعروف بمواقع التواصل الاجتماعي بأنه "وزير مقتدى الصدر"، من أن "فكرة خبيثة قد يطبّقها بعض الكتل السياسية، وهي زَجّ وزير صدري من التيار أو منشقّ أو مطرود أو متعاطف في الحكومة التي يريدون تشكيلها، لأسباب إسكات الشارع الصدري من جهة، واتّهامه بالمُشاركة في حكومة الفساد من جهة أخرى، وإننا إذ نعلن ذلك فإننا نحذّر من عواقب هذا الفعل الوقح، فنحن لم، ولن، نشترك معهم لا في برلمان، ولا في حكومة ولا غيرها مُطلَقاً"!

وهذا كلام يحمل في طياته التحذير من استدراج التيار الصدري في أي تشكيل لحكومة قادمة على غير رغبة منه، هذا فضلاً عن رغبة التيار في التمركز على مقاعد المعارضة الشعبية.

وبعد ساعات من تصريح "وزير الصدر" استبعد أمين عصائب أهل الحق قيس الخزعلي، تشكيل حكومة جديدة بعد انسحاب الصدر من البرلمان، داعياً إلى اتفاق سياسي لإعادة الانتخابات.

كما دفع انسحاب الصدر رئيس تيار الحكمة عمار الحكيم، هو الآخر، رغم مبادرته السابقة الإصلاحية الأخيرة، لتأكيد عدم المشاركة في الحكومة الجديدة. إن هذه الربكة السياسية جعلت العراق أمام عدة احتمالات تتعلق بمستقبل العمل السياسي بعد الانسحاب الصدري، وأبرزها استمرار حكومة مصطفى الكاظمي كحكومة تصريف أعمال يومية حتّى بداية العام المقبل، وبعدها يمكن حلّ البرلمان والذهاب إلى انتخابات برلمانية مُبكّرة. وحالياً هنالك حديث من صالونات سياسية خاصّة بأن الإطار التنسيقي، برئاسة المالكي، سيسعى لتعديل قانون الانتخابات والدعوة إلى انتخابات مبكرة.

يُحتمل قيام الصدر بتحريك الشارع والجماهير التابعة له، وقد تكون بداية لمرحلة خلط الأوراق التي قد تنهار فيها غالبية مؤسّسات الدولة المدنية والعسكرية. وقد انتشرت قبل أسبوع في عديد من الساحات العامّة والأحياء السكنية ببغداد منشورات عليها عبارة واحد فقط: "البديل قادم"، وقد انتشرت بأحياء معروفة بأنها مغلقة تقريباً للتيار الصدري.

يُحتمل أن يستمر الصدر بالانكفاء السياسي الصامت إلى حين ترتيب الانتخابات المبكّرة بداية العام المقبل ليعود العراق إلى المربع صفر. وأخيراً يُحتمَل التناحر المسلح، وهو السيناريو الأخطر، وقد أشار إليه العديد من الأطراف الداخلية والخارجية بما فيها مركز الشرق الأوسط الأمريكي للدراسات منتصف يونيو/حزيران 2022، وبيّن أن "اللجوء إلى النزاع المسلّح بين الخصوم السياسيّين العراقيّين أمر وارد مع استمرار الخلافات".

وهكذا تبقى هذه الفرضيّات وغيرها مجرَّد آراء وتوقّعات يمكنها أن تساهم في رسم مستقبل العراق المجهول، وقد ترى تلك الفرضيّات النور، أو قد تبقى في دهاليز السياسة المظلمة، ولكن تبقى الكرة النارية بيد الزعيم الصدري، وهو وحده من بين القوى العراقية الداخلية الذي يمكنه (لشعبيته وقدراته العسكرية) تحديد اتّجاه بوصلة العراق المقبلة. بالنهاية يبقى خيار إعادة الانتخابات هو الخيار الأسلم والأرجح، والأوفر حظّاً.

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.



TRT عربي
الأكثر تداولاً