وفاة الشيخ يوسف القرضاوي الأمين العام المؤسس للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين (AA)
تابعنا

شكّلَت ظاهرة الشيخ يوسف القرضاوي الرئيس المؤسس للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الذي توُفّي مساء يوم الاثنين 26 سبتمبر/أيلول 2022 حالة فريدة في التجديد الفقهي والمنهج الوسطي والموسوعية المعرفية، إذ وصلت مؤلفاته إلى ما يقارب 200 مؤلف.

وما تميز به الشيخ أنه مجدد من نفس المدرسة الفقهية الأزهرية التقليدية وبنفس أدواتها الاجتهادية في علم الأصول واللغة العربية ومنهج نقد الحديث، ولم يكن مشروعه التجديدي بناءً على مناهج فكرية غربية مستوردة لتفسير الإسلام تفسيراً يسارياً أو تفسيراً ليبرالياً أو تأويلاً حداثياً ينتهي بتفريغ الإسلام من مضمونه، وجعله متسقاً مع دعوات علمنة الإسلام، وهو ما أعطى فكر الشيخ وعلمه من سعة الانتشار ما لم يتحقق لغيره بسبب الانضباط المنهجي وسرعة الاستجابة، والاشتباك مع النوازل التي تهم المسلمين، ولذلك امتاز مشروع الشيخ بخصائص فريدة لم تتحقق لغيره.

الرؤية الشمولية للدعوة

لم يكن الشيخ القرضاوي يعرض مشروعه الإصلاحي عرضاً جزئياً مبتسراً أو يقف عند إصلاح الجانب الشعائري دون الجانب السلوكي أو الاقتصار على الجانب العقدي والسكوت عن التداول العامّ للإسلام في شؤون السياسة والاجتماع والاقتصاد.

فالإسلام بنظره جاء لتلبية احتياجات الإنسان كاملة وتغذيته عقلاً وروحاً والاهتمام بمصالحه الدنيوية والأخروية كما يقرر علماء المقاصد. فالمقصد العامّ للدين هو تحقيق مصالح العباد في المعاد والمعاش، ومن هنا رفض فكرة حصر الإسلام في المساجد والزوايا وقصره على الجانب الشخصي بحيث يتحول إلى مجرد طقوس هشة لا تأثير لها في الحياة، ومن هنا جاءت مؤلفات الشيخ واسعة شاملة في الاقتصاد والسياسة والسلوك والفكر.

كسر باب الاجتهاد

في كتابه "الاجتهاد في الشريعة الإسلامية" رأي الشيخ أن إغلاق باب الاجتهاد تَسبَّب في فقدان الفقه الإسلامي قدرته على الاستجابة لأسئلة العصر، وأن وإغلاق بابه هو معصية وقعود عن واجب شرعي كفائي وضروري، لأن نصوص الوحي محدودة الكمّ، ونوازل الناس في الاقتصاد والطب والسياسة، وهو ما يوجب توسيع دائرة الاجتهاد لمواكبة تطورات العصر.

لذلك كان الشيخ يدعو إلى كسر باب الاجتهاد لا مجرد فتحه، لأن فتحه يعني إمكانية إغلاقه فيما بعد، أما كسره فيعني أنه لا يبقى باب يقفل أمام الفقهاء مستقبلاً.

وكان يرى أن الاجتهاد هو الذي يعطي الشريعة خصوبتها وثراءها٬ ويمكّنها من قيادة زمام الحياة إلى ما يحب الله ويرضى دون تفريط في حدود الله ولا تضييع لحقوق الإنسان، وذلك إذا كان اجتهاداً صحيحاً مستوفياً لشروطه، صادراً من أهله في محله.

وسطية المنهج

اتسم الخط الفكري لمشروع الشيخ بالفرادة والوسطية، فلم يكن مع المدرسة الظاهرية التي تقف عند حرفية النص بلا غوص في علله ومقاصده، ولم يكن الشيخ يحصر نفسه في المدرسة التقليدية التي تكتفي بشرح الحواشي والمتون وتعالج قضايا العصر الكبرى بالتخريج على أقوال الفقهاء الذين ماتوا منذ قرون.

نبذ الشيخ التعصب، فقد كان سَدّاً في مواجهة تيارات الغلو والتطرف، وكتب في ذلك ردوداً كما في رسالته "ظاهرة الغلو في التكفير"، كما رفض فكر المحنة والابتلاء الذي كان يسود صفوف الجماعات الإسلامية، وكان أقرب ما يكون إلى الفكر المقاصدي على طريقة الشاطبي والطاهر بن عاشور في تعليل الأحكام وفهم مصالح العباد، وقد بدا ذلك واضحاً في كتابه "دراسة في فقه مقاصد الشريعة".

التيسير في الفتوى والتبشير في الدعوة

خرج الشيخ القرضاوي في ترجيحه للفتاوى من أسلوب بعض العلماء الذين يُفتُون بالأحوط وتجنُّب الخلاف، وذهب إلى اتخاذ منهج التيسير. وقد بدا ذلك واضحاً في كتابه "الحلال والحرام" الذي وصفه خصوم الشيخ بكتاب الحلال والحلال لندرة ما يُفتي بالحرمة إلا عندما يدلّ الدليل بشكل واضح على الحرمة. وكان يكرِّر أن منهجه في الفتوى هو الابتعاد عن شدائد ابن عمر وشواذّ ابن مسعود ورُخَص ابن عباس.

الإصلاح الفكري والسياسي

لم يتوقف مشروع الشيخ الإصلاحي عند الجوانب الفقهية والسلوكية، بل تعداه إلى الفقه السياسي، واعتبر أن الفقه السياسي اعتراه الجمود في تاريخنا ولا بد من تجديده، فكتب كتابه "فقه الدولة"، واعتبر أن فكرة إقامة الدولة فكرة مركزية في الشريعة الإسلامية لا كما ادّعى البعض بأن الإسلام دين بلا دولة ولا سياسية.

لم يقبل الشيخ قول من يعتبر الشورى مُعلِمة لا مُلزِمة لأنه بذلك يفرغها من مضمونها ويجعلها بلا فائدة، ورفض منح رئيس الدولة حقّ إعلان الحرب وعقد المعاهدات دون الرجوع إلى ممثلي الأمة المنتخَبين من الشعب، وأنكر على من يرى الديمقراطية كفراً أو سبيلاً إلى الكفر، ودعا إلى مشاركة المرأة في الشأن العامّ، والتعددية السياسية ومشروعية تشكيل الأحزاب والمعارضة.

كما عالج الشيخ الكثير من القضايا الحضارية فكتب عن العولمة والاشتباك مع الفكر الغربي ووضع حدودا وُسطى في العلاقة تُخرِج من استقطاب التبعية. وكتب عن العلمانية في مواجهة الإسلام وأثبت صلاح الإسلام لسياسة الحياة. وكتب أيضاً عن تجديد الخطاب الديني والخروج من قوالب الخطاب الجامد كما ورد في كتابه " ثقافتنا بين الانفتاح والانغلاق".

إن أبدع ما قدمه المشروع الفكري للشيخ القرضاوي هو تحريره لمفهوم التجديد في الدين حينما نقله من مفهوم الفرد الإمام المجدِّد كما كان شائعاً قبله إلى مفهوم الطائفة والجماعة المجددة. فصار التجديد وظيفة الجماعة وليس منحصراً بالفرد. كما نقله من فكرة التجديد الجزئي في علم من علوم الدين إلى أفق أوسع في التجديد بعلوم الدين كلها وشؤون الدنيا كلها ما دام يؤدّي رسالة حضارية متسقة مع فلسفة الاستخلاف في الأرض.

لقد سدّ الشيخ فجوة معرفية وثغرة حضارية في مرحلة حساسة من تاريخ المسلمين، وأصبح على كل دعاة التجديد والإصلاح من بعده البناء على ما تركه من إرث علميّ في سعيهم نحو الانبثاق الحضاري.

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً