رئيس وزراء الهند مودي (الصورة من موقع BBC) (Others)
تابعنا

لا أحد يمكنه أن يُجيل بصره على الخريطة دون أن يلحظ الهند، ذلك البلد القاري الذي يُعَدّ ثاني أكبر بلد من حيث عدد السكان، والأول ديمقراطيّاً، والسادس اقتصاديّاً، والسابع من حيث المساحة الجغرافية. البلد الذي يحظى بواحدة من أكبر نسب التعدد الديني والعرقي واللغوي في العالم. وبالإضافة إلى نموذجها المادي الغني هذا، شكّلَت الهند على مدار عقود نموذجاً في البعد المعنوي تَمثَّل في أمرين: مجابهة الاستعمار، وتبنّي التعددية العلمانية الليبرالية في شؤون المعتقد والسياسية. ولكن يبدو أن رئيس الوزراء الهندي الحالي ذا النزعات العنصرية ناريندرا مودي، وحزبه القومي الحاكم بهاراتيا جاناتا (BJP) يحاولان تقويض هذا النموذج، وإحداث تغير جوهري على هوية الهند السياسية التي ترسخت منذ الاستقلال.

يختلف المؤرخون في تحديد التاريخ الذي بدأت فيه الهند خضوعها استعماريّاً للتاج البريطاني، فمنهم من يرى أن الاستعمار البريطاني للهند قد بدأ عام 1858، في حين يرى آخرون أن بداية الاستعمار قد ترجع إلى قبل هذا التاريخ بكثير، إذ بدأ بُعَيد معركة بلاسي 1757. وأيّاً يكُن تاريخ بداية الاستعمار فإن الهند قد نالت استقلالها عام 1948 بعد عملية مقاومة سلمية ضد المستعمر البريطاني قادها المهاتما غاندي.

لقد شكلت هذه المقاومة مثالاً لما بات يُعرف لاحقاً في أدبيات ما بعد الاستعمار بـ"المقاومة السلبية"، وهي تعني في واحد من تعريفاتها تَحمُّل المعاناة الذاتية في سبيل تكبيد المستعمر التكلفة الأخلاقية عن فعله الاستعماري. وهي مقاومة تفرض انفصالاً بين الضحية والجاني على عكس المقاومة التقليدية التي تُمارَس بالانخراط المباشر وإيقاع الأذى المادِّيّ بالخصم. ومن الجدير بالذكر أن هذه المقاومة السلبية تشكّل الأساس الذي يعتمد عليه الأسرى في سجون إسرائيل في معركة الأمعاء الخاوية.

تصدّرَت الهند حركة التحرر من الاستعمار، وبعد نيل استقلالها عام 1948 من دون استعمال السلاح، شكلت نموذجاً لحركات التحرر من الاستعمار الأخرى وذلك في النصف الأول من القرن العشرين إذ نال عديد من الدول في آسيا وإفريقيا استقلاله تباعاً. يمكن القول إن الهند كانت بداية عقد الاستعمار الذي انفرط باستقلالها.

إن اتباع الهند-غاندي سياسة المقاومة السلبية كان ضمن نموذج أشمل ينبع من ضرورة تبنّي المبادئ الليبرالية العلمانية في ما يتعلق بالمعتقد والانتماءات السياسية. كان البلد بعد الخروج من الاستعمار بحاجة إلى نموذج تعدُّدي جامع لأطياف الشعب كافة. وعلى الرغم من أن المؤتمر الوطني الهندي قد استطاع صياغة دستور تعددي ليبرالي، فإن ذلك لم يأتِ من غير خسائر كبرى تمثلت أولاً بانفصال الهند وتشكيل دولة باكستان وإرغام عشرات الملايين من الهندوس والمسلمين والسيخ على مغادرة مدنهم وقراهم لعبور الحدود والاستقرار في أوطانهم الجديدة. وثانياً باغتيال المهاتما غاندي على يد أحد الهندوس القوميين تحت ذريعة تساهله مع المسلمين. رغم الشرعية الكبيرة التي اكتسبها غادي والتي منحت فلسفته في المقاومة السلبية والتعددية زخماً كبيراً وشريعة واسعة، فإن التعصب القومي استطاع أن يُطِلّ برأسه ويُنهي حياة الرجل الذي يعود إليه الفضل في استقلال الهند.

العجيب أن ما برز في ذلك الوقت كأنه تيَّار هامشي، وأعني ذلك التيار القومي الذي لا يؤمن بالتعددية فضلاً عن الليبرالية، قد نما طوال العقود الماضية ليحتلّ مع حزب BJP مركز الصدارة، وليتحول بالنتيجة إلى تيار رئيسي متحكم بمفاصل البلد يدفع بالتعددية إلى الخلف مُظهِراً مبادئ تعاكس الهوية السياسية التقليدية للهند.

ومن هناك بات تمجيد نقاء العنصر الهندوسي هو المسيطر على الأجندة السياسية والاجتماعية، وبات العداء للآخر خصوصاً المسلمين هو التعبير الأوضح عن هذه السياسة. لقد تنكرت الهند في حكم مودي لهويتها الليبرالية التعددية وباتت تنغلق على نفسها وتتبنى سياسات عنصرية ذات لون واحد.

ففي خطابه قبل عدة أيام بذكرى استقلال الهند، جدّد مودي التزامه مبادئ تفوُّق الدين الهندوسي ونقاء العرق الهندوسي. لقد أشاع خطابه حالة من الإحباط العامّ، فبعد حوادث الاعتداءات العنصرية على المسلمين، ظهرت بارقة أمل أن يكون خطاب الاستقلال السنوي فرصة لنزع فتيل الغضب الشعبي وتلطيف الأجواء من أجل الحفاظ على السلم الأهلي. ولكن العكس هو الذي حدث، فقد تَجنَّب ذكر العلمانية والتسامح الديني، وذهب إلى تعريف الهنود على أنهم هندوس، في سعي لإلغاء الآخر، إذ قال: "هذا هو تراثنا. كيف لا نفخر بهذا التراث؟ نحن أولئك الناس الذين نرى شيفا [الإله الهندوسي الأكبر ويُدعى أيضاً ماهاديفا] في كل كائن حي"، مضيفاً: "نحن أناس نرى الآلهة في النباتات. نحن الأشخاص الذين يعتبرون الأنهار أُمّاً. نحن أولئك الأشخاص الذين يرون شاكتي [إلهة أخرى في الهندوسية يعود إليها تقليد الشاكتيزم] في كل حجر".

ببساطة، إن هذا الخطاب الضيق والتهميشي يُقصي أكثر من 280 مليون مواطن غير هندوسي يقطنون الهند، ويجعلهم "آخَر" دخيلاً على التراب الذي يسكنون عليه منذ عشرات وربما مئات العقود. لا شك أن هذا الخطاب المعبأ بالقومية والإقصائية من شأنه أن يضع هذه الملايين في دائرة الخطر والاستبعاد، ويعزز انتشار العنف والاقتتال الداخلي.

هذا الخطاب يشكّل انقطاعاً راديكاليّاً عن الخطاب الرسمي الذي شاع ضمن النخبة السياسية الحاكمة منذ الاستقلال. خذ على سبيل المثال جواهر لال نهرو، وهو أحد أبرز قادة حركة الاستقلال وأول رئيس وزراء، إذ أكد في العديد من خطاباته سعيه لـ"جلب الحرية والفرص للمواطن العادي، للفلاحين والعمال في الهند، لمحاربة الفقر والجهل والمرض. لبناء دولة مزدهرة وديمقراطية وتقدمية. إن كل واحد منا، هو ابن من أبناء الهند بغضّ النظر عن الدين الذي ينتمي إليه. له الحقوق والامتيازات والالتزامات على قدم المساواة مع أبناء الهند كافة".

مع مودي يبدو أن "قدم المساواة" قد تعثرت، فالمسلمون، وهم ثاني أكبر عرقية في الهند بعد الهندوس ويشكّلون 13 بالمئة من عدد السكان، على وجه التحديد يتم استهدافهم بشكل ممنهَج. على سبيل المقال، أقرّت الحكومة الوطنية الهندية قانون هجرة شاملاً مثيراً للجدل يعمل على تسريع الحصول على الجنسية الهندية للمهاجرين غير الشرعيين من البلدان المجاورة، سواء من الهندوس أو أحد الأديان الخمس الأخرى (السيخي والبوذي والجاين والبارسي والمسيحي) في إقصاء واضح للمسلمين. وقد برزت مقاطعة آسام، في شمال شرق الهند بالقرب من بنغلاديش، ويقطنها 33 مليون شخص أغلبهم من المسلمين، كمثال صارخ، إذ تخوض المحاكم هناك "حرب الجنسية"، وذلك لحرمان الغالبية المسلمة هناك من حق المواطنة الهندية في شكل يذكّر بمحاكم التفتيش التي مورست على المسلمين في الأندلس على يد الإسبان.

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً