جزء آليات عسكرية روسية المتواجدة على الأراضي السورية (Getty Images)
تابعنا

لا شك أن ثمّة نقاط تشابُه مشتركة بين الحرب الروسية في أوكرانيا وتقاطعها مع المسألة السورية، كما أنه لا يمكن لعاقل أن يفصل بين تبعات الحرب في أوكرانيا وارتداداتها على نفوذ روسيا ومكانتها على الصعيد الدولي، وبين مناطق الصراع الأخرى مثل سوريا وليبيا التي يتصارع ويتنازع فيها العديد من أصحاب النفوذ الدوليين. لذا فأيًّا كان مسار الأحداث في أوكرانيا ومآلاتها فإن المشهد الاقتصادي والسياسي والميداني في سوريا قابل بشكل أو بآخر للتأثر بالارتدادات الناجمة عن تلك الحرب وبدرجات متفاوتة.

عمليًّا، الملاحظ أنه ومع استمرار صمود الجيش الأوكراني النسبي ومعارك الاستنزاف ضد روسيا، فقد برزت مؤخراً لدى بعض القوى، ومنها إسرائيل، تساؤلات تتحدث عن وجود مؤشرات جدية لإمكانية استغلال إيران هذا الانشغال الروسي في أوكرانيا، والفراغ الذي قد ينجم نتيجة تقليص وجودها العسكري وقوتها في سوريا، للعمل على مواصلة استراتيجيتها القديمة/الجديدة القائمة على التوسع والتمدد أكثر على كامل الجغرافيا السورية.

هذا الأسلوب بات معهوداً وتتبعه طهران كلما سنحت لها الفرص للقيام به، وكلما مكّنتها الظروف والمتغيرات الدولية والإقليمية على إيجاد الثغرات للتسلل عبرها لتقوية وجودها ونفوذها غير المرحب به إقليميّاً ودوليّاً فوق الأراضي السورية.

ولكن وبالنظر إلى استراتيجية روسيا وتدخلها العسكري في سوريا، فموسكو، كضابط للإيقاع، لن تسمح بالمطلق لإيران بأن تأخذ أكثر من الدور المسموح والمراد لها أن تأخذه في الملف السوري.

بخاصة أن إيران تعي وتدرك أنها غير قادرة، في هذه الأوقات العصيبة َالتي تعيشها، على الصدام مع روسيا، أو التخلي عن دعمها العسكري أو السياسي خصوصاً في ظل مفاوضات النووي الإيراني.

هذا من ناحية، أما من الناحية الأخرى فإن انشغال روسيا في حربها الأوكرانية سيطلق يد إسرائيل ويطلق يدها في استهداف التموضعات الإيرانية أكثر، وبشكل متسارع. وهذا ما لمسناه فعلياً خلال الشهر الأخير حيث تنوعت جغرافية الاستهداف والغارات الإسرائيلية، وبشكل أكثر كثافة من السابق.

عملياً، ومع اقتراب الحرب الروسية من دخول شهرها السابع، فالمعطيات والمؤشرات توحي بأن مجريات الحرب والعدوان الذي تنفذه روسيا على أوكرانيا، لن يؤثر تأثيراً ملموساً على أهدافها الإستراتيجية، أو على عملياتها القتالية وقواعدها، وثقل وجودها الميداني على الجغرافيا السورية لصالح أي طرف من الأطراف. فروسيا قوة نووية كبرى لا يستهان بها، ولديها ما لديها من القدرات العسكرية، والتجهيزات واللوجستيات والعدة والعتاد القتالي ما تستطيع به تغطية متطلبات عملياتها العسكرية على جبهات أوكرانيا، دون الحاجة (على الأقل حتى هذه الأوقات) إلى رفدها بالقوات التي زجت بها على الجغرافيا السورية، منذ سبتمبر/أيلول 2015 عام والتي تلخصت أهدافها في القضاء على الثورة السورية، واستعادة الأراضي الخارجة عن سيطرة النظام كافة، وتتويج بإعادة تأهيل النظام على المستوى الدولي، وإقامة وجود طويل الأمد لقواتها المسلحة وترساناتها العسكرية في سوريا .

عملياً بعد كل هذه الخسائر العسكرية والاقتصادية، بلا شك فوجود القوات الروسية في سوريا سيكون مستمراً بل وطويل الأمد، وهذا ما يشير إليه الكثير من المعطيات.

وهذا ما أثبته انتشارها الميداني على الأراضي السورية، والعقود الطويلة التي وقعتها مع وزارة دفاع النظام السوري، حيث سيطرت بموجب هذه العقود على قاعدتي حميميم الجوية وطرطوس البحرية، ناهيك عن تحكمها بغالبية القرارات السياسية والعسكرية لنظام دمشق، وهذا الأمر أتصور أنه أمر محسوم ولا جدال فيه بالنسبة لموسكو.

من هنا فإن تقليص القوات سواء كان حقيقة أم لا، فإنه في غالب الأمر لن يؤثر مطلقاً على قدرات روسيا القتالية، باعتبار أن الكرملين قادر على استقدام وإرسال قوات إضافية جديدة وخلال وقت قصير إذا استدعى الأمر ذلك في سوريا.

من ناحية ثانية فإن موسكو وكما اتضح وخلال فترة وجودها في سوريا، اعتمدت ولاتزال تعتمد في الغالب فقط على بعض من قدرات أسراب قواتها الجوية التدميرية، ولا قوات برية أو مدرعة كبيرة يحسب لها حساب تنتشر لها في سورية، لنستطيع الخوض مع بعض الأصوات التي ترى احتمالية أن يؤثر أي تقليص وقتي محتمل لقواتها على الجغرافيا السورية تأثيراً واضحاً، أو يزيد أو ينقص من قدرات الجيش الروسي على كلا الجبهتين في سوريا وأوكرانيا لتستغل إيران ذلك لصالح نفوذ أكبر لها.

لقد بات بوسعنا من خلال الحرب الدائرة في أوكرانيا، أن نلحظ بالفعل تغيرات في أولويات السياسة الخارجية الروسية. وإمكانية تأثيرها بشكل أو بآخر على مصالحها في الصراع السوري. ولكن في النهاية لا يملك الكرملين إمكانية أن يرى فشل سياساته واستراتيجيته وتدخله في سوريا. وبخاصة أن العملية العسكرية فيها باتت رمزاً كبيراً لطموح روسيا بالعودة إلى عرش القوة العظمى.

وبالتالي ستواجه روسيا الآن التحدي المتمثل بتأمين وتقوية موقعها في سوريا، ومنطقة الشرق الأوسط، وشمال إفريقيا عموماً وبأقل التكاليف والقدرات.

واستمراراً للمصلحة الاستراتيجية في الحفاظ على قواعدها الجوية والبحرية على الأراضي السورية، فهذه القواعد باتت تدعم استعداد ونفوذ روسيا العسكري في شرقي المتوسط. الأمر الذي أصبح أكثر أهمية في خضم المواجهة المتزايدة مع الولايات المتحدة وحلف "الناتو" في أكثر من محور وملف.

في ضوء كل ما تقدم فلا يساورني أدنى شك في أن روسيا وإن انشغلت بحربها في أوكرانيا، فإنها لن تسمح لإيران بتجاوز حدودها المرسومة لها على الأراضي السورية، والخروج عن هامش المناورة المسموح لها من قبلها، أو المجازفة ولأي أسباب بتخطي الخطوط الحمراء الموضوعة لها، والتي قد تؤثر بشكل أو بآخر على نفوذ موسكو وسياساتها وأهدافها البعيدة في سوريا، فسـوريا بموقعها الاستراتيجي والجيواستراتيجي باتت موطئ قدم وفضاء حيوياً لها على البحر الأبيض المتوسط، وفي منطقة الشرق الأوسط عموماً، حيث تتنافس وتتشـابك المصالـح الدولية، ناهيك عن رغبة روسيا في استعادة موقعها الفاعل والمتقدم في السياسات الدولية والعالمية، وترسيخ مكانتها فيها، على غرار ما كان عليه موقع الاتحاد السوفيتي السابق.

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً