#IWK74 : India marks Republic Day with spectacular military parade (Arif Ali/AFP)
تابعنا

وأنا مستغرق في تتبع الحالة الهندية، وجدت أن الهند عالم لحاله، يعيش وضعاً مختلفاً عن كل ما حوله في عالم اليوم، فدفعني هذا لتتبع النقاش حول الهند كأكبر نظام علماني معاصر، كي أنظر إلى أي مدى يمكن أن يكون ثمة فعلاً علمانية هندية تقترب أو تبتعد عن هذا التوصيف.

فجدل العلمانية اليوم وحدودها وبنيتها وتطبيقاتها، من النقاشات التي تثير جدلاً واسعاً، في ظل موجة صعود اليمين المتطرف عالمياً، وهو ما دفع بالحديث مجدداً عن مدى قدرة العلمانية على تخفيف بعض التطرف اليميني المتصاعد واللافت، وخاصة في مجتمع كبير ومتعدد ومتنوع كالهند مثلاً، التي يٌنظر إليها كأكبر نظام ديمقراطي علماني في العالم، ليسهل عملية اختبار مقولة قدرة العلمانية على حلول مشاكل الصراعات الدينية والإثنية في هكذا مجتمعات.

فمع صعود حزب بهارتا جاناتا القومي الهندوسي للسلطة عام 2014، بزعامة رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، ومسلمو الهند تحديداً، يواجهون مأزقاً حقيقياً فيما يتعلق بحقوقهم وهويتهم كمسلمين هنود، عدا عن المسيحيين أيضاً إلى حد ما. والمسلمون الذين يتعرضون لكل أنواع التمييز والقمع والتهميش والاقصاء وهم من كانوا يمثلون قمة الهرم السياسي الحاكم للهند لعدة قرون مضت، باتوا اليوم مجرد أقلية مهمشة وبلا أي حقوق مواطنة متساوية كما ينص الدستور والقانون وتقتضي العلمانية الهندية.

أولى الاختبارات

ففي العام 2019 دار جدلٌ كبيرٌ في الهند، حول التعديلات الدستورية، التي أجريت على دستور 1955، بعد مشكلة المهاجرين في ولاية آسام شمال شرق الهند، والذين كان يتم التعامل معهم وفق اتفاق وُقع في الولاية عام 1985، بين الحكومة المركزية وإحدى المنظمات القومية المتطرفة في الولاية، فيتم إجراء إحصاء لعدد السكان في الولاية، وهو الإحصاء الذي لم يجرى سوى عام 2019، وتبين أن الولاية فيها ما يقارب مليوني مهاجر أجنبي.

وتبين أيضاً أن غالبيتهم من الهندوس، وهم الذين كانت تعتقد الحكومة، أنهم مسلمون، ولكن تبين العكس تماماً، وهو ما دفع الحكومة للحديث عن تعديلات دستورية لتنص هذه التعديلات على "منح المهاجرين من ثلاث دول مجاورة للهند هي بنجلادش وباكستان وأفغانستان، الجنسية الهندية، شريطة أن يكونوا من الهندوس أو السيخ أو المسيحيين أو البوذيين فقط وأنه لا يحق للمسلمين اكتساب هذه الجنسية".

فجّرت هذه التعديلات موجة غضب عارمة في عموم الهند التي يقطنها ما يقارب 150 مليون مسلم، مطالبين بحقوقهم التي سٌلبت منهم قانونياً، في تحيز واضح ضدهم، وهي الاحتجاجات التي جٌوبهت بكثير من القمع والإنتهاك لكل شيء يتعلق بالمسلمين الهنود، ولم تكن هذه الحادثة سوى رأس قمة جبل الجليد في موضوع الإقصاء والتهميش، الذي يلاقيه الهنود المسلمون بعد حادثة تهديم مسجد البابري في ديسمبر/كانون الأول 1992.

وبنفس هذا السياق أيضا، أقامت منظمتان هندوسيتان هما فيشوا هندو باريشاد وجمعية الصحوة الدينية دارام جاجام ساميتي، وهما مقربتان للحزب الحاكم بهاراتا جاناتا، في ديسمبر/كانون الأول 2014، فعاليات عامة سميت بعودة المسلمين والمسيحيين للهندوسية، وذلك في مدينة أغرا شمال الهند، حيث تم دعوة أعداد كبيرة من أبناء الأحياء الفقيرة، في هذه المدينة، وأغلبيتهم من المسلمين المهاجرين البنغاليين، الذين يعيشون على مهنة جمع النفايات، بحجة تسليمهم معونات إجتماعية من هذه المنظمات.

وما إن وصل الناس لمكان الإجتماع ذلك، حتى تم تنصيب تمثال كبير للآلهة الهندوسية، وبُدِئ بترتيل أغانٍ وأناشيد دينية طقوسية هندوسية، ومن حينها تم الحديث على أنهم قد أصبحوا هندوساً، ولم يعودوا مسلمين، فأثار هذا الحدث كثيراً من النقاشات، حول قانونية مثل هذا الإجراء في دولة يفترض أنها دولة علمانية، يتمتع فيها الناس بقدر كافٍ من حرية التفكير والمعتقد لكل مواطنيها.

مؤشر التراجعات المخيفة

تشهد الهند تحولات خطيرة وعكسية، ثقافياً واجتماعياً وسياسياً، على مدى العقديْن الأخيريْن تحديداً، مع صعود اليمين الهندوسي المتطرف، هذه التحولات التي حذر منها كثيرون، ومنهم الأديبة والروائية الهندية، أرونداتي روي، بقولها إن "الهند أخطر بكثير منها قبل عشر سنوات"، مضيفة أن "الفاشية الهندوسية -هكذا بالحرف- قد تنفجر بـ 150 مليون مسلم هندي".

فالهند موطن التنوع الكبير في الأعراق والأديان والمذاهب واللغات، تمر الآن بأخطر مراحلها على الإطلاق. فيما يتعلق بصعود اليميني الهندوسي المتطرف، هذا اليمين الحاكم للهند منذ عام 2014، بقيادة حزب الشعب الهندي، بهاراتا جاناتا، الذي يمثل الجناح السياسي للمنظمة القومية الهندوسية راشتراسويام سيفاك سنج، التي تأسست عام 1925م، وتعرف اختصارا بأر إس إس، هذه المنظمة التي لا تختلف كثيراً عن النازية الألمانية والفاشية الموسولينية، في أهدافها التي تسعى لتحقيقها وفي مقدمتها أن تكون الهند بحلول عام 2021 دولة هندوسية تماماً.

فخلال العاميْن الماضييْن، شهدت الهند موجة قمع شديدة ضد عدد من الناشطين والأكاديميين والصحفيين والمفكرين الهنود المسلمين والمسيحيين على حد سواء، فتم اعتقال أبرز الناشطين الأكاديميين كهاني بابو، بتهمة التحريض على العنف، وهو الناشط المجتمعي الأكاديمي الذي يعمل أستاذاً للأدب الإنجليزي في جامعة دلهي، ويسهم في نشاط عام ضد التهميش والإقصاء في الأوساط الأكاديمية الهندية ويعمل باحثاً في عديد من الجامعات العالمية.

ومثله أيضاً، تم اعتقال القس اليسوعي الهندي، ستان سوامي، البالغ من العمر 83 عاماً وهو مفكر هندي شهير في الأوساط الهندية، وغيره من الأكاديمين والناشطين ، إذ تشير كثير من المؤشرات الدولية إلى تراجع الحريات الأكاديمية والصحفية إلى أدنى مستوياتها في الهند منذ الاستقلال.

ماذا عن العلمانية الهندية إذن

على الرغم من أن الدستور الهندي نص في مقدمة تعديله للعام 1976 على أن "الهند دولة علمانية ديمقراطية"، بما يعني الفصل بين تدخل الدولة في الشؤون الدينية والعكس، فإن هذا المسار الدستوري غير واضح المعالم، فيما يتعلق بسياسات الدولة تجاه الأديان في البلاد، وذلك بتحول الدولة إلى مظلة للتمييز وقوة ضاربة بيد الأكثرية الهندوسية، ضد الأقليات الأخرى، خاصة وأن ثمة أحداث وقضايا كشفت حجم التداخل بين الديني والسياسي في الحالة الهندية.

لم تكن قضية حكم المحكمة العليا الهندية، بعد ما يقارب ثلاثة عقود من التقاضي، بأحقية الهندوس بأرضية مسجد البابري الذي بُنى قبل خمسة قرون، الذي هٌدم من قبل متطرفين هندوس، إلا واحدة من عشرات القضايا التي يتم تجييرها لصالح الأكثرية الهندوسية الحاكمة، وهذا ما يسدل الستار تماماً على قصة العلمانية الهندية، ويطويها تماماً ويجعلها نصاً معطلاً غير مفعل دستورياً، وإن تم الحديث عنه كثيراً كنص دستوري إلا أنه لا أثر له على واقع الناس وحياتهم، وأصبحت الهند اليوم من أكثر الدول تطرفاً تجاه الأقليات الدينية الأخرى، التي تعاني تهميشاً وازدراءً وإقصاءً كبيراً وواضحاً.

ومن هٌنا، يصبح الحديث عن أن الهند دولة علمانية دستورياً، حديثاً مضحكاً تماماً، وهو ما يكشف حجم الفجوة الكبيرة، التي بدأت تكبر اليوم، بين الشعارات المرفوعة والواقع البائس والمتطرف، الذي يرزح تحت عذاباته ملايين البشر في دولة متعددة الأديان والطوائف والمذاهب واللغات، وهو ما يفتح الباب واسعاً للسؤال عن أن العلمانية المشرقية كالعلمانية الهندية فشلت فشلاً ذريعاً، وأنها لا تختلف عن غيرها من العلمانيات المشرقية كما هو الحال في الصين وغيرها من البلدان، التي ترفع شعار العلمانية دستورياً لكنها على أرض الواقع لا وجود سوى لممارسات وسياسات تتعارض مع أبسط الحقوق والحريات الدينية والفكرية والثقافية لمواطنيها.

في اعتقادنا أن سؤال العلمانية في السياق الهندي، يكشف بجلاء، عن حجم الكارثة التي تتجه نحوها المجتمعات المعاصرة، في ظل صعود اليمين المتطرف، في الشرق والغرب على حد سواء، وأن العالم مقْدِم على محطات كارثية لا تقل خطورة وسيناريوهات عن سيناريو صعود النازية في ألمانيا والفاشية في إيطاليا، منتصف القرن الماضي، هذه الموجة اليمينية المتطرفة، التي ستقضي على كل مكتسبات الحداثة السياسية، التي حققتها الشعوب كالديمقراطية والعلمانية وكل منظومة الحقوق والحريات للأفراد والمجتمعات على حد سواء.

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.


TRT عربي
الأكثر تداولاً