تابعنا
لقد حظي خطاب الرئيس التركي أردوغان، في كلمته خلال اجتماعات الدورة 74 للجمعية العامة للأمم المتحدة، بتغطية كبيرة وبمتابعة وإشادة في أوساط المجتمعات الإسلامية، لما حمل من عرض للقضايا المركزية كافة والمشكلات الرئيسية التي يعاني منها العالم الإسلامي.

هذا فضلاً عن الانتقاد الذي وجهه الرئيس أردوغان إلى مؤسسات النظام الدولي الحالية وعلى رأسها مجلس الأمن والأمم المتحدة، داعياً إلى إعادة هيكلة هذه المؤسسات على أساس العدل والأخلاق، وربما لهذا اختار موقع الرئاسة التركية العبارة التالية ملخَّصاً عن خطاب أردوغان في نيويورك: "إن إعادة هيكلة الأمم المتحدة ومجلس الأمن على وجه الخصوص على أساس العدل والأخلاق والضمير ستبعث الأمل مجدَّداً في الإنسانية. نحن في تركيا مستعدون لدعم كل خطوة في هذا الصدد".

تدلّل أمثلة وقضايا كثيرة على ازدواجية النظام الدولي، ولكن أهمها القضية الفلسطينية والموقف الدولي من الاحتلال الاسرائيلي، وفي الحقيقة لم تغب عملية انتقاد أردوغان للخلل في بنية المؤسسات الدولية وعدم قيامها بواجبها في تطبيق العدالة، كما لم تغب القضية الفلسطينية عن الخطابات السابقة التي ألقاها الرئيس التركي في اجتماعات الأمم المتحدة السابقة، فالقضية الفلسطينية مثال بارز على تناقض النظام الدولي ومؤسساته التي تغض الطرف عن الاحتلال الإسرائيلي وجرائمه بحق الشعب الفلسطيني المكفول وَفْقاً للقوانين والقرارات الدولية، ولكن العرض الأخير للرئيس أردوغان أمام الجمعية العامة كان مختلفاً بعض الشيء عمَّا سبق.

لقد كانت القضية الفلسطينية واحدة من القضايا الرئيسية التي ركّز عليها الرئيس أردوغان في خطابه الأخير شكلاً ومضموناً، إذ رفع أردوغان أمام ممثلي 193 دولة، لوحة تُظهِر 4 خرائط للأراضي الفلسطينية توضح التسلسل التاريخي لالتهام إسرائيل للأراضي الفلسطينية يوماً بعد يوم منذ عام 1947 حتى اليوم، في ظل سكوت وتواطؤ من المجتمع الدولي، ودعم صارخ من الإدارة الأمريكية الحالية.

ومن خلال هذه اللوحة بدأ أردوغان يسأل مجموعة من الأسئلة السياسية الصعبة والتي يُعَدّ القسم الأول منها تعريضا بشرعية مؤسسات النظام الدولي ودورها، والقسم الثاني ضرباً لمشروعية الاحتلال الإسرائيلي وتحذيراً من خطره.

فلم يتردد أردوغان على منصة الأمم المتحدة في السؤال عن فائدة الأمم المتحدة كمؤسسة دولية إذا لم تطبق قراراتها المتعلقة بإسرائيل، ثم تساءل أردوغان عن حدود إسرائيل وأين إسرائيل، يا ترى أي أراضٍ تشملها إسرائيل؟ أين كانت إسرائيل عام 1947؟ وأين أصبحت في 1949 و1967، وأين هي حاليّاً؟". وكان أردوغان يرفع خريطة النفوذ في المنطقة مشيراً إلى أنه لم يكن هناك شيء تقريباً اسمه إسرائيل في عام 1947.

تقودنا تصريحات الرئيس التركي هذه إلى الوقوف على هذا التزايد في التركيز على البعد السياسي للقضية الفلسطينية في حين كان البعد الإنساني هو الذي يبدو بارزاً في خطاب تركيا تجاه القضية الفلسطينية سابقاً، على الرغم من أن أردوغان لم يتجاهل البعد الإنساني.

فكلمته تطرقت إلى مقتل سيدة فلسطينية بدم بارد بيد قوات الاحتلال الإسرائيلية على أحد الحواجز، إذ قال أردوغان "إذا لم تحرّك مشاهد القتل الوحشية لامرأة فلسطينية بريئة بيد قوات الأمن الإسرائيلية ضميرنا، فلم يعد للكلام معنى"، كما تطرق أردوغان إلى الحصار اللا إنساني على قطاع غزة في كلمات سابقة له.

ومع هذا كان الزخم للبعد الجيوسياسي في حديث أردوغان حاضراً بقوة هذه المرة عندما تساءل عن تاريخ هذا الوجود الإسرائيلي وعن الحدود وعن المستقبل أيضاً، إذ قال أردوغان أن إسرائيل استمرت في التوسع منذ عام 1947 وإنها لا تشبع، وحاليّاً تسعى لأخذ ما تبقى من الأراضي التي ما زالت بيد الفلسطينيين. وكان أردوغان أشار قبل أيام قليلة من اجتماع الأمم المتحدة إلى غضّ الطرف عن السلاح النووي الإسرائيلي على الرغم من تشكيله خطراً على دول المنطقة.

إن عبارة "على منصة الأمم المتحدة أسأل: أين حدود إسرائيل؟" التي أبرزها أردوغان هي عبارة تصيب عصفورين بذات الحجر، فهي تشير إلى التشوُّه والضعف في أهمّ مؤسسات النظام الدولي، وتنبه من خطر القضاء على دولة فلسطين وحقوق شعبها بصورة تامَّة من خلال المبادرة المطروحة على أنها صفقة القرن.

إن ما يدور من حديث عن صفقة القرن التي تهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية يرتبط بتنسيق وتقارب متزايد بين بعض دول المنطقة خصوصاً السعودية وإسرائيل التي لا تزال تتمدّد داخل الأراضي الفلسطينية، وتضرب في المنطقة من غير رقيب ولا حسيب.

لقد انتقد أردوغان هشاشة المؤسسات الدولية، كما مسّ بحديثه شيئاً من الشرعية المزعومة لدولة الاحتلال التي عمل رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو بكل جهده على إظهار إنجازاته فيها من خلال فتح وتعزيز علاقات قديمة وجديدة مع دول مهمة مثل الهند والصين ودول إقليمية كدول الخليج. لهذا كان نتنياهو أول من استشعر المعاني التي يقصدها أردوغان، ولذلك لم ينتظر نتنياهو المأزوم داخليّاً كثيراً حتى قام بالرد من خلال مقطع فيديو على كلمة الرئيس أردوغان.

على الرغم من كل محاولات نتنياهو لجعل إسرائيل دولة طبيعية في المنطقة بمنطق القوة والتمدُّد على الأرض في ظل صمت المؤسسات الدولية وعدم تنفيذ قراراتها، لا يزال صوت قوي يعرض على أرفع دبلوماسيّي وسياسيّي العالم الحقيقة المتمثلة في غياب العدالة الدولية عن أداء دورها، وبمثال عملي صارخ يرتبط تاريخه بتاريخ إنشاء المنظمة، فقيام دولة الاحتلال جاء بعد 3 سنوات من إنشاء الأمم المتحدة.

لقد وضع أردوغان أمام أعين أعضاء الأمم المتحدة دليلاً عمليّاً بالخرائط لواحد من قرارات المنظمة الدولية، وهو قرار التقسيم لعام 1947، وهو قرار عجزت الأمم المتحدة عن تطبيقه وضربت دولة الاحتلال به وبما جاء بعده من قرارات عرض الحائط على الأرض، ولا تزال تحاول الحصول على مزيد.

وإزاء هذا الوضع الدولي فإن الدور الذي تقوم به تركيا في المحافل الدولية يُعَدّ مهمّاً في دعم القضية الفلسطينية على غرار القرار الذي قدمته تركيا في ديسمبر 2017 الذي رفضت بموجبه 128 دولة اعتبار القدس عاصمة لإسرائيل، مع أن إسرائيل تحاول فرض ذلك بالأمر الواقع. لهذا فإن مرحلة جديدة من التحدي بين تركيا وإسرائيل قد بدأت.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِّر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً