تابعنا
مع تزايد أعمال العنف والقتل الجماعي يحاول الكثيرون، منهم الرئيس الأمريكي ترمب، ربط زيادة العنف بألعاب الفيديو.

بعد كل عملية إطلاق جماعية، سواء في الولايات المتحدة أو في غيرها من الأماكن، يحتدم النقاش حول دور التكنولوجيات الحديث في التحفيز على مثل هذه الجرائم. ومن بين هذه التكنولوجيات التي تعرضت لانتقادات كبيرة كانت منصات التواصل الاجتماعي لدورها المفترض في تعزيز انتشار خطاب الكراهية وبالتالي التحريض على ممارسة العنف ضد الأقليات والملونين من قبل المنتمين إلى تيارات اليمين المتطرف، والذين باتوا يوصفون "بالإرهاب الأبيض".

لكن منصات التواصل الاجتماعي لا تقف وحدها في قفص الاتهام؛ هناك أيضاً ألعاب الفيديو الافتراضية والتي تعد واحدة من أكثر التكنولوجيات انتشاراً خصوصاً بين فئة المراهقين والشباب، وهي الفئة التي تمثل رأس الحربة في تنفيذ "البيض" لعملياتهم الإرهابية ضد الآخر سواء أكان هذا "الآخر"، يختلف عنهم بالعرق أو اللون أو الدين.

فبعد حادثة إطلاق النار الجماعي التي وقعت مؤخراً في الولايات المتحدة الأمريكية في ولايتي أوهايو وتكساس وراح ضحيتها العشرات، خرج الرئيس الأمريكي دونالد ترمب ليلقي باللائمة على ألعاب الفيديو بشكل مباشر وصريح إذ قال "يجب إلقاء اللوم على ألعاب الفيديو البشعة والتي أصبحت مألوفة الآن على نطاق واسع في خلق ثقافة تحتفل بالعنف".

لا شك في أنه وبعد كل حادثة إطلاق من هذا النوع تزداد المهاترات السياسية بين الفرقاء، ويكيل كل فريق لخصمه الاتهامات، ويقوم بتحميل المسؤوليات من أجل الظفر بنصر سياسي في أي استحقاق انتخابي قادم.

فمرشحة الحزب الديمقراطية لانتخابات الرئاسة الأمريكية السابقة هيلاري كلينتون صرحت من جانبها بأن المشكلة لا تكمن في ألعاب الفيديو، إذ إن ألعاب الفيديو منتشرة في كل أنحاء العالم، ومع ذلك فإن نسب القتل الجماعي في الولايات المتحدة هي الأعلى على الإطلاق؛ مقارنة بالدول الغربية على أقل تقدير.

في ظل هذه المهاترات يحاول الساسة بشكل عام الفرار من المسؤولية من خلال تحمليها على عاتق طرف ثالث وهنا كانت ألعاب الفيديو.

إن هدفهم هو الابتعاد قدر الإمكان عن تلمُّس أصل المشكلة والذي يتعلق بسياسة حيازة السلاح والتي تخضع لحماية لوبيات نافذة في واشنطن، الأمر الذي يجعل الحد من حيازة السلاح أمراً مكلفاً جداً على الصعيد السياسي.

هناك اعتقاد عند الكثيرين حول أن طبيعة ألعاب الفيديو تعزز النزعة العنيفة عند فئة المراهقين والشباب بشكل كبير، خصوصاً إن تم أخذ درجة انتشارها في المجتمع المعاصر بعين الاعتبار؛ فإذا علمنا أنه يوجد الآن حسب "تقرير سوق الألعاب العالمي" Global Games Market Report أكثر من 2.5 مليار لاعب في جميع أنحاء العالم، وأن إنفاقهم مجتمعين سوف يشكل ما قيمته 152.1 مليار دولار على الألعاب في عام 2019، فإن تأثير هذه الألعاب النفسي على اللاعبين وبالتالي انعكاسها على المجتمع يصبح محل دراسة واهتمام على نطاق واسع.

لكن لم تثبت الدراسات حتى الآن خصوصاً الحديثة منها صحة كلام الرئيس ترمب حول ضلوع ألعاب الفيديو في زيادة نسبة عمليات القتل الجماعي.

بل على العكس، تثبت هذه الدراسات أن ألعاب الفيديو حتى تلك التي تحتوي على مضمون عنفي تسهم في تقليل العنف المجتمعي وذلك من خلال عملية الإلهاء التي تمارسها على اللاعبين؛ والقاعدة هنا ببساطة تقول: إن المراهق أو الشاب طالما كان جالساً على أريكته يمارس إحدى ألعاب الفيديو فإنه لن يذهب إلى الشارع ويمارس العنف ضد غيره.

من هذه الدراسات الحديثة التي تثبت عدم تورط ألعاب الفيديو في زيادة معدلات العنف لدى المراهقين، دراسة حملت عنوان "لا يرتبط الانخراط بألعاب الفيديو بالسلوك العدواني للمراهقين" Violent video game engagement is not associated with adolescentsaggressive behavior من إعداد معهد أكسفورد للإنترنت وجامعة أكسفورد ونشرتها مجلة Royal Society Open Science مطلع عام 2019.

أظهرت نتيجة هذه الدراسة والتي تعد الأشمل في مجالها حتى الآن أنه لا توجد صلة مباشرة بين ألعاب الفيديو العنيفة وبين السلوكيات العدوانية بين المراهقين. هذا ما أكده الباحث الرئيسي في الدراسة البروفسور أندرو برزيبيلسكي إذ قال إن "فكرة أن ألعاب الفيديو العنيفة تثير العدوان في العالم الحقيقي فكرة شائعة، لكنها لم تُختبر جيداً بمرور الوقت. على الرغم من اهتمام الآباء وصانعي السياسة بالموضوع، فلم يثبت البحث وجود سبب للقلق".

يعترف برزيبيلسكي في الدراسة بأنها ليست الأولى من نوعها التي تظهر هذا النوع من النتائج وتصل إلى الخلاصة ذاتها حول عدم ضرورة إلقاء اللوم على ألعاب الفيديو فيما يتعلق بسلوك المراهقين العنيف. ومع ذلك فقد أكد ضرورة إجراء المزيد من الدراسات المعمقة حول تأثير الإنترنت على السلوك الإنساني.

دراسة أخرى نشرها موقع Centre for European Economic Research بعنوان "فهم تأثيرات ألعاب الفيديو العنيفة على الجريمة العنفية" Understanding the Effects of Violent Video Games on Violent Crime خلص معدّوها إلى أنه وعلى عكس الفكرة السائدة حول ضلوع ألعاب الفيديو في زيادة العنف فإن صرف الوقت على ألعاب الفيديو يقلل من نسبة العنف بالنظر إلى أن المراهقين والشباب يُمضون الكثير من الوقت على هذه الألعاب، الأمر الذي يصرفهم عن الخروج وممارسة هذا العنف في الشارع.

وتربط الدراسة بين ألعاب الفيديو كظاهرة حديثة في الإلهاء بالظواهر التقليدية من قبيل ارتياد الأندية الصيفية والرياضية التي من شأنها ترويض أوقات الشباب والدفع بهم بعيداً عن حلبات الشوارع التي تكثر فيها معدلات ممارسة العنف.

أخيراً، يبقى الجواب الحاسم حول ارتباط ألعاب الفيديو بالعنف محل دراسة. فالظواهر الاجتماعية تتغير من بيئة إلى بيئة أخرى، وهي قابلة للبناء وإعادة البناء مع مرور الوقت وتغير العوامل الظرفية والموضوعية. فالعالم السلوكي الكبير إريك فروم كان قد أرجع، في كتابه الشهير "تحليل النزعة التدميرية للبشرية" المنشور عام 1973، أن نزعة الإنسان إلى العنف لا تأتي بغرض السيطرة كما عند الحيوان بل تتعدى ذلك لتأتي لأغراض المتعة. فالإنسان قد يمارس العنف من أجل الترويح عن النفس.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كتّابها ولا تعبِّر بالضرورة عن TRT عربي.

الرئيس الأمريكي دونالد ترمب يتحدث خلال اجتماع حاشد في مدرج مقاطعة إل باسو في تكساس، الولايات المتحدة، 11 فبراير/شباط 2019. (رويترز) - ليا ميليس. (Reuters)
TRT عربي
الأكثر تداولاً