تم وضع قناع وقائي على وجه تمثال لقديس الراعي الإيطالي ، القديس فرنسيس ، في سان فيورانو ، إحدى المدن الإيطالية  التي تم إغلاقها بسبب تفشي فيروس كورونا (Reuters)
تابعنا

يبقى الغموض المستقبلي سيد الموقف بشأن الأبعاد والمآلات المترتبة على انتشار فيروس كورونا المستجدّ؛ أو "كوفيد 19" بتعبير أدقّ. وينغلق أفق الاستشراف مع تطوّرات داهمة يتعقّبها العالم ساعة بساعة، عن إصابات تتزايد وبؤر جديدة للجائحة المعولمة، وهو ما يفرض سطوته الواضحة في الواقع الأوروبي.

لم يعد الفيروس "صينياً" في وعي العالم، منذ عبوره القارّات، حتى أنّ المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل اجترأت يوم الأربعاء 11 مارس/آذار على البوح بما تحاشى أقرانها الإفصاح عنه، من أنّ الجائحة قد تصيب ثلثي شعبها أو يزيد.

بعد أسابيع معدودة من ظهور "كوفيد 19" في أوروبا صارت القارّة نموذجاَ مصغّراً لعالم موبوء بالفيروس. ثمة مناطق مُصابة به وأخرى متعافية منه، حتى الآن، بينما تتدحرج الأوضاع نحو حالة طوارئ يتّسع نطاقها في مزيد من الدول والأقاليم.

ابتدأ الأمر في إيطاليا بفرض قيود وتدابير في أقاليم شمالية اكتُشِفت فيها حالات إصابة بالوباء، وكشف ذلك عن وجه آخر للعولمة يربط السور العظيم بأوروبا. شدّدت روما إجراءاتها فعزلت تلك المناطق دون جدوى، ثم وسّعت نطاق العزل الصحي إلى أن فرضته على إيطاليا بأسرها. تجرّ الخطوة عواقب جسيمة للغاية على الحياة اليومية وقطاعات الاقتصاد المنهك والمثقل بالديون في بلد الستين مليوناً؛ لكنها محاولة لا مناص منها لدرء ما هو أسوأ.

برزت فرنسا بؤرة أوروبية ثانية تقريباً في انتشار الفيروس، فصعّدت سلطاتها القيود أسبوعاً بعد أسبوع وحظرت التجمّعات بدءاً من أعداد معيّنة مع إلغاء نشاطات عامّة وشلل الحياة الثقافية، واضمحلال الإقبال السياحي.

على هذا الطريق مضت دول ومناطق وأقاليم أوروبية أخرى نحو فرض العزلة والتقييد باطِّراد، بما يُعيق العجلة اليومية في بعضها لتصبح مجتمعات بلا حياة مدرسية أو جامعية أو ثقافية أو دينية؛ مع تعطّل بعض مواقع العمل أيضاً. لم تعهد الأجيال الأوروبية الحالية تجربة كهذه، وستتفاقم وطأة هذه الخبرة الداهمة إنْ استشرت حالة العزل والطوارئ واشتدّت الإجراءات الاستثنائية أسبوعاً بعد أسبوع.

قد تبدو القضية صحية في الأساس لكنّ مؤشِّراتها تُؤذِن بمنعطف معنوي حادّ للغاية وعواقب مركّبة بالنسبة لأوروبا المرفّهة خصوصاً ولبقية العالم عموماً؛ إن تواصل المنحى على هذا النحو الصاعد شهوراً إضافية.

حتى إن نجحت مساع عاجلة لاحتواء الفيروس الذي يتصدّر التغطيات الإعلامية؛ فإنّ ما انكشف للبشرية بالتجربة المباشرة أنها ليست بمنأى عن أي جوائح لاحقة قد تظهر دون استئذان وتكتسح القارّات من حيث لم تحتسب، وقد تأتي الفيروسات اللاحقة أشدّ من سابقاتها على المنوال ذاته. يتحقّق شهود الموسم من هشاشة المدنيّة الحديثة وعجز أمم عظمى ودول متقدِّمة إزاء كائن مجهري يفرض سطوته على الجميع. كما اتضحّت قابلية مُذهلة لحدوث انقلاب مفاجئ في أنماط الحياة اليومية ومؤشرات الاقتصاد أيضاً، لتصير الأولوية العامّة للتعقيم الشامل والنزعة الوقائية والعزل الصحي.

خرج قادة الدول والحكومات الأوروبية تباعاً لإعلان إجراءاتهم الصارمة في مواجهة الفيروس واحتواء تداعياته، وحرصوا على إظهار الجدية والكفاءة دون إثارة الهلع، لكنهم لم يُعلنوا عن وصفة خلاص، فما لديهم أساساً هو حزمة تغييرات وقائية قسرية تتنزّل على طرائق الحياة والعادات اليومية لمحاولة الحدّ من تفشِّي الجائحة.

صار مطلوباً الامتناع عن اللقاءات والاجتماعات والتجمهر والسفر، وعلى المرافق الثقافية والدينية أن توصد أبوابها، وعلى التلاميذ المكوث في بيوتهم، وعلى الأهالي عدم ترك رعاية الأطفال لأجدادهم الذين هم أكثر عرضة لمضاعفات الإصابة بالفيروس، بما يفرض انقطاع بعض أولياء الأمور عن مواقع العمل كي يتفرّغوا للمنازل، ويبقى على الجميع تجنّب المصافحات بالطبع.

تأتي هذه التعليمات وغيرها ضمن تدابير قاسية نسبياً بالنسبة لمجتمعات حديثة ومرفّهة ما كانت لترضى بإملاءات مسلكية كهذه. صار على الجميع الآن الانصياع لمدونة سلوك مفروضة حكومياً بمنطق الطوارئ والحياة الاستثنائية والأولويّات الصحية.

لن يكون التطبيق سهلاً بطبيعة الحال؛ كما اتّضح للعيان ليل الاثنين 9 مارس/آذار مع رئيس الوزراء الهولندي مارك روته الذي وعظ مواطنيه بالقول: "من هذه اللحظة فصاعداً يحب أن نتوقّف عن المصافحة"، ثم أنهى وقفته بمصافحة شريكه في منصّة الحديث رئيس قسم الأمراض المعدية في المعهد الوطني للصحة العامة.

صار مؤكداً أنّ الضمور المتسارع في أوروبا تحت وطأة "كوفيد 19" ليس مزحة، فالشلل يتسلّل إلى الحياة اليومية تدريجياً، وتتجرّد القارّة في موسم كورونا من بهجة الربيع لترتدي الكمّامات، وتتوقف الفعاليات الثقافية والمؤتمرات والمعارض والنشاطات العامة، وتخلو قاعات المحاضرات وأروقة الدرس والصلاة من مرتاديها، وتستشرف المواسم السياحية المقبلة انهياراً محتوماً، بينما تشهد رحلات جوية وخطوط قطارات إلغاءات متزايدة، وتضطرّ الطائرات إلى الإقلاع بمقاعد شاغرة أحياناً.

إنْ انصرفت عيْنٌ نحو مؤشرات كورونا المتفشية؛ فإنّ العين الأخرى ترمق متاعب الاقتصاد وأسواق المال التي تصارع الأوضاع الاستثنائية وتخشى استمرارها أو تفاقُمها. فزمن الطوارئ يقتضي تخفُّف الجمهور من الإقبال الاستهلاكي على سلع وخدمات معيّنة، مع تصاعُد الطلب على حاجات وقائية محدّدة ومخزونات أساسية تلائم الظروف الاستثنائية ومقتضيات العزل الصحي والهواجس الوبائية.

لا تحتمل الأنظمة الرأسمالية الحسّاسة انقلاب السّلوك الاستهلاكي على نحو خاطف، وقد يصعب على الأسواق التكيّف مع أولوية العزل والكمّامات والتعقيم الشامل. ليس بوسع عجلة المال والأعمال أن تتعايش مع هذه الحالة الضاغطة طويلاً، ولهذا تحرص السوق على التهدئة والطمأنة لدرء الذعر الذي سينعكس على المتاجر والمستثمرين وأسواق المال في اليوم التالي، وإن حققت قطاعات محدّدة مكاسب استثنائية جراء التربّح من الأزمة.

أمّا في الحياة السياسية فيبدو التهديد هذه المرّة مختلفاً عن مناحي الافتعال والتهويل التي دأبت عليها القوى الشعبوية والمتطرفة. لا تربح العنصرية من تفشي الأوبئة بسهولة، فانتشار "كوفيد 19" عابر للإثنيات ضمن الإقليم الواحد ولا يفرِّق بين ضحاياه، ولا تمنح التغطيات الإعلامية والاهتمامات الشبكية المنشغلة بالجائحة فسحة لمجاراة الكراهية الإثنية أو صناعة الإسلاموفوبيا الدؤوبة مثلاً، رغم الشكوك التي طاردت الصينيين في بداية الموسم.

يستثير موسم الوباء مكامن قلق مشتركة، فالفيروسات لا تفرِّق بين البشر في البيئة الواحدة، ومن شأن خطوط الوصل والفصل ضمن المجتمعات أن يُعاد رسمها في زمن الجوائح على أسس مغايرة للتقسيمات الطبقية والإثنية والثقافية والدينية والمناطقية. ومع عزل البشر بعضهم عن بعض؛ قد تنشأ حواجز من نمط جديد حسب تصنيفات "كورونا" هذه المرّة. وثمة اختبار جادّ لروح التضامن والالتزام القيمي ضمن مجتمعات متنوِّعة ثقافياً ودينياً في زمن الطوارئ والظروف الاستثنائية، خاصة عندما تضغط الأزمات على موارد البشر وأرزاقهم وحاجاتهم الأساسية.

قد تنحسر موجة التهديد بعد حين تاركة ندوباً غائرة، لكن ماذا لو تعالت وتفاقمت على النحو الذي استشرفه مسؤولون وخبراء؟ كيف سيبدو منسوب الحريات الشخصية وجودة الحياة الديمقراطية في زمن الطوارئ والقيود الاستثنائية على التحرّك والاجتماع والتجمهر والعمل النقابي وفعاليات المجتمع المدني؟

تحدّ أوروبا الموحدة في هذا الموسم من مكتسبات قائمة على التواصل المجتمعي الحرّ والانفتاح وحرية التنقّل التي عزّزتها الوحدة واتفاقية شنغن للحدود المفتوحة. لكنّ الموسم سيمنح فرصاَ استثنائية للتخلص من تقاليد استهلاكية مضرّة بالبيئة والكوكب، كما سيعزّز مكانة الفضاء الشبكي في الأعمال والتعليم.

تهون كثير من الأضرار إن قيست بشبح الأزمة الاقتصادية التي ستفرضها سطوة "كوفيد 19" حال استمرارها أو تفاقمها؛ على مجتمعات منشغلة بالعزل والوقاية والتعقيم وإعادة ترتيب أولويّاتها. من المرجّح أن تخرج الدول الأوروبية من "سنة كورونا" بحصيلة موجعة من العجز والديون، بينما تقف أسواق المال الأوروبية والعالمية على شفير انهيارات محتملة قد تتداعى بتأثير الدومينو المتعاقب الذي سيهوي بـ"اليورو" ويتوِّج "كورونا المستجدّ" شاهداً على أزمة تتجاوز موسمه؛ الذي قد يطول أو يقصُر.

TRT عربي
الأكثر تداولاً