تابعنا
اغتالت الولايات المتحدة الجنرال قاسم سليماني قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني في بغداد في عملية تحمل العديد من الرسائل إلى أطراف عدة.

الغارة الأمريكية ليلة الجمعة الثالث من يناير/كانون الأول والتي أدّت إلى مقتل قاسم سليماني (قائد فيلق القدس الإيراني) ومقتل عددٍ من كوادر المليشيات اللبنانية والعراقية، المنضوية تحت جناح المليشيات الشيعية الموالية لطهران، ليست مجرد عملية انتقام صغيرة قام بها الأمريكيون، رداً على اقتحام السفارة الأمريكية في بغداد، بل هي تأتي كحلقة من حلقات اتساع مساحة المجابهة الأمريكية الإيرانية، وتحديداً بعد انسحاب الأمريكيين من اتفاقية 5+1 الموقعة مع إيران، والخاصة بالبرنامج النووي الإيراني.

الغارة الأمريكية تأتي تعبيراً عن جدية الولايات المتحدة في تنفيذ سياستها، التي أعلنت عنها إدارة الرئيس دونالد ترمب، والتي يمكن تلخيصها على أساس وضع البرنامج النووي الإيراني قيد الرقابة الدولية الصارمة، وعلى أساس وقف البرنامج الصاروخي الباليستي متوسط وبعيد المدى، وكذلك وقف إيران لكل أشكال تدخلاتها السياسية والعسكرية والأيديولوجية في محيطها العربي والإقليمي.

الغارة الأمريكية أتت في لحظة مفصلية تعيشها دولة العراق، هذه اللحظة تتمثل في عودة الوعي الوطني الديمقراطي لدى مكونات الشعب العراقي، وخصوصاً المكون الشيعي، الذي اكتشف أنه كان مجرد جسر عبور إيراني للهيمنة على العراق وإخضاعها لرؤية قادة طهران المتمثلة في قيام دولة فارس الكبرى.

لهذا فإن قتل قاسم سليماني، وهو العقل المدبر لغزو الدول العربية والتدخل في شؤونها والهيمنة على سيادتها ومقدراتها، جاء تعبيراً عن رفض أمريكي لاستمرار هذا النهج الإيراني، وتعبيراً عن سخط الأمريكيين مما تخطط له إيران في العراق، وما مهمة سليماني الأخيرة، التي خطط لها، من خلال محاصرة قوات الحشد الطائفية العراقية لمبنى السفارة الأمريكية، والقيام باقتحام أجزاء منها، إلا مقدمة لانقلاب عسكري تنفذه قوات الحشد، ويتم بموجبه اعتقال رئيس الجمهورية لإجباره على تسمية من يريده سليماني رئيساً جديداً للحكومة.

الغارة الأمريكية ذات أهداف متعددة؛ فقد وُجّهت رسائل متعددة عبرها، رسالة إلى حزب الله اللبناني ذراع إيران في لبنان، وأخرى لفصائل مليشيات الحشد الشعبي الإيراني الطائفية، وثالثة للقيادة السياسية في طهران والتي تتمثل بشخص مرشد الثورة علي خامنئي.

الرسائل الموجهة لهذه الأطراف الثلاثة، لم تكن بعيدة عن حليفهم الرابع النظام السوري، وهي رسائل تتلخص في أن من يتمرد على النفوذ الأمريكي، ومن يهدد مصالح الولايات المتحدة، سيكون مصيره مصير سليماني ومن قُتلَ برفقته.

الرسالة الأولى وصلت إلى طهران أولاً، وهي تقول إن على إيران سحب نفوذها من العراق، وعدم محاولة القيام بانقلاب عسكري، بحجة تهدئة الأوضاع المتفجرة في هذا البلد، نتيجة الثورة الشعبية المستمرة سلمياً. فقد كانت نية سليماني كما سرّبت ذلك وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، ونقلتها صحيفة بريطانية، العمل على تدبير انقلاب تنفذه قوات الحشد الشعبي الموالية لإيران، يتم بموجبه إعلان حالة الطوارئ، وحل البرلمان والحكومة وإقالة الرئيس، ومنع التظاهرات، ريثما تتمكن القوات الانقلابية من السيطرة على البلاد، وإفشال ثورتها المطالبة بتنحية الفساد، وبناء دولة مواطنة مستقلة.

الرسالة الثانية كانت موجهة للقيادات الشيعية العراقية الموالية لإيران، وهي تتلخص بالقول، إن اقتحام السفارة الأمريكية في بغداد ما كان له أن يتم لولا غض النظر من قبل حكومة عادل عبد المهدي المستقيلة، وهي إما أن تكون راضيةً عن هذا الاقتحام، وبالتالي هي شريكة في الإضرار بمصالح الولايات المتحدة، والسماح بعمليات إرهابية ضدها، أو أنها بسبب ضعف قدرتها أمام قوات الحشد وممثليه السياسيين في البرلمان العراقي، لم يكن أمامها سوى الرضوخ والانسحاب من المشهد الذي رسمه سليماني.

الرسالة الثالثة كانت موجهة لحزب الله اللبناني ومن يدور في الحلقة الإيرانية في ذلك البلد، والرسالة واضحة وتقول إن تشكيل محور شيعي يمتد من طهران مروراً ببغداد ودمشق وبيروت سيكون محوراً معادياً لمصالح الولايات المتحدة الأمريكية في هذه المنطقة، وكذلك سيشكل تهديداً صريحاً لوجود إسرائيل حليفة الأمريكيين المدللة، وخطراً على حلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط.

ولهذا ينبغي على قادة حزب الله اللبناني أن يدركوا أن ذراع القوة الأمريكية قادرة على أن تمتد في كل أنحاء هذا المحور، وهم (أي حزب الله) حين يعطلون الحياة الطبيعية في لبنان، ويمنعون إعادة إنتاج النظام السياسي فيه، بصورة وطنية تخدم تطور الشعب اللبناني، دون بقاء الإقطاعيات الطائفية المتحكمة بحياته، والتي تقف خلف الفساد فيه، يريدون أن تستمر هذه الصيغة السياسية، لأنها تخدم مشروع الهيمنة الإيرانية. ويرفضون مطالب الشعب اللبناني الثائر.

إذن يمكننا القول: إن الولايات المتحدة باتت قريبة من تنفيذ استراتيجية متكاملة، تعمل على انحسار النفوذ الإيراني من دول الإقليم. هذه السياسة لا تنفصل عن خطوتها بقتل قاسم سليماني، فقتله يعني قتل العقل المدبر والمنفذ لسياسة الهيمنة، هذه السياسة تعمل عليها قيادتها الدينية بزعامة خامنئي، ولهذا يمكننا فهم رد فعل خامنئي حين قال: إن فيلق القدس سيستمر كما كان في عهد قائده سليماني.

لكن قتل سليماني ليس مجرد قتل شخص عادي. فهذا الرجل هو من نسج كل خيوط البساط الإقليمي الطائفي، وهو من يعرف كيف تدار لعبة الهيمنة والسيطرة. ولذلك فقتله هو مقدمة لقتل مشروع إيران في الشرق الأوسط كله.

وسليماني هو من أوجد أذرع إيران الشيعية المسلحة، ومن يدير لعبة التشييع الطائفية، التي تهدد نسيج المنطقة بصراعات لا تخدم تطورها وتنميتها. ولذلك فعملية قتله ستخلخل متانة النسيج الطائفي والمليشياوي الذي اشتغل عليه عبر سنوات طويلة، وستجعل حسابات هذا المعسكر قيد الخوف الحقيقي من الانتقام الأمريكي، هذا الخوف هو بذرة سقوط مشروع إيران في الشرق الأوسط.

بقي أن نقول إن الخطوة الإيرانية في العراق لن تتوقف عن محاولة الهيمنة من جديد، وستحاول إيجاد بدائل عما حدث من اضطراب فيها، ولذلك يمكن اعتبار قتل قاسم سليماني ورفقائه من لبنان والعراق مقدمةً لصراع مواجهاتٍ متعددةٍ ومختلفة الأدوات بين إيران ومعسكرها الإقليمي، وبين الولايات المتحدة وحلفها في الشرق الأوسط .

ولكن يمكن القول إن الفارق بين ميزاني القوى الأمريكي والإيراني لا يمكن أن يعمل لمصلحة سياسة إيران السابقة التي بات عليها أن تعود إلى مربعها الوطني بدل الانزلاق نحو الهاوية.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِّر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً