تابعنا
أعادة ظاهرة "محمد علي" تسليط الضوء على دور منصات التواصل الاجتماعي وتكنولوجيا الأجهزة الذكية في عمليات التحول السياسي والاجتماعي.

في ضوء هذه الضجة الهائلة التي يُحدِثها المقاول محمد على عبر منصات السوشيال ميديا من خلال فيديوهاته البسيطة والعفوية التي يفضح فيها فساد نظام الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وكبار جنرالاته في الجيش والداخلية، عادت الأضواء لتُسلَّط من جديد على قوة تكنولوجيا الأجهزة المحمولة ومنصات التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك وتوتير.

لا يأخذ هذا الاهتمام المتجدد مسار التركيز على نوع التكنولوجيا المستخدمة وهي هنا الأجهزة الخلوية Smart Phones ومنصات التواصل الاجتماعي وحسب،بل أيضاً مسارها الجغرافي إذ تعود مجدَّداً منطقة الشرق الأوسط، وهي إحدى أبرز مناطق العالَم الثالث، لتكون مسرحاً للأحداث الهامَّة والمشتعلة على صعيد العالَم الرقمي.

يعود بنا هذا الربط بين البعدين التقنيّ والجغرافي إلى أطروحات كثير من المفكرين والباحثين حول الدور التي تلعبه تكنولوجيا المعلومات في التحوُّل الديمقراطي وتفكيك بنية الدول التسلطية. وبما أن العالَم الثالث، خصوصاً منطقة الشرق الأوسط منه، يزخر بالأنظمة الدكتاتورية فإنها كانت -وما زالت- مسرحاً لكثير من الأبحاث الإمبريقية التي حاولت إيجاد العلاقة السببية بين انتشار الإنترنت والتحول الديمفراطي، أو تلك الاستقصائية التي تبحث في تشكُّل وإعادة تشكُّل الهُويَّة السياسية والاجتماعية لشعوب المنطقة وأنظمتها ودور الإنترنت في هذه العملية المتشابكة.

أعتقد أن منطقة العالَم الثالث والشرق الأوسط منه ستبقى تحظى باهتمام كبير سواء من صانعي القرار أو الأكاديميين على حدّ سواء، أولئك الذي يولون دراسة وفهم الظواهر الاجتماعية التي باتت تكنولوجيا المعلومات تؤثر وتتأثر فيها بشكل كبير وجوهري أهمِّيَّة.

ويعود ذلك إلى عدة أسباب، منها: أولا، طبيعة العلاقة بين شعوب هذه المناطق وأنظمتها السياسية التي باتت تتّصف بديناميكية وسيولة عالية شكّلَت مادة دسمة للمهتمّين بدراسة التحوُّلات الاجتماعية والسياسية، وثانياً سيطرة الشباب على النسبة العليا في تعداد سكانها. ففي العالَم العربي وحده يشكّل الشباب من سن 15 إلى 29 ما نسبته 32 بالمئة من إجمالي عدد السكان، أي نحو 100 مليون.

وأخيراً الزيادة الكبيرة في استخدام التكنولوجيا إذ باتت أسواق هذه الدول تشكّل إحدى أهم الساحات في المبارزة بين الشركات الكبرى للسيطرة على أكبر عدد من المستهلكين والمستخدمين. فبين عامَي2017 و2025 ستشهد منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا أعلى معدَّل نموّ في الاشتراك بخدمة الأجهزة المحمولة يقدر بـ2.5 بالمئة ليصل إلى 459 مُسجل.

لقد بات تَعرُّف أنماط تَشكُّل الهُويَّة لدى سكان هذه المنطقة، ومعرفة تحوُّلاتهم النفسية والفكرية والآيديولوجية، وتَعرُّف أنماط سلوكاتهم اليومية، من أهمّ المعارف التي باتت تسيطر على ذهنية صُنَّاع القرار سواء في الحكومات أو في الشركات التجارية، وذلك إما لغرض التأثير على التوجهات السياسية لأبناء هذه المنطقة، وإما لغرض زيادة رأس المال.

من هذه الدراسات التي تهتمّ برصد التحولات التي تمّت الإشارة إليها، تلك التي أعدّها مركز "بيو" للأبحاث، وهي الدراسة الاستقصائية التي شملت11 دولة في أربع مناطق عالَمية تقع ضمن العالَم الثالث. ومن بين النتائج التي توصلت إليها أن غالبية أولئك الذي يستخدمون الأجهزة الخلوية ومنصات التواصل الاجتماعي يتعرضون أو يتواصلون مع أشخاص لديهم خلفيات سياسية ودينية مختلفة، ولم يلتقوهم شخصيّاً.

كما هناك دلائل على أن مستخدمي الأجهزة الخلوية يملكون استعداداً أكثر من غيرهم الذين لا يستخدمونها بشكل كبير لتقبُّل الفكر الآخر والتفاعل مع أولئك الذين ينتمون إلى أحزاب مختلفة، وجماعات دينية مغايرة أو حتى طبقة مغايرة سواء طبقة عرقية أو اقتصادية.

إذا أخذنا هذه النتائج بعين الاعتبار، فإن تكنولوجيا الأجهزة الخلوية ومنصات التواصل الاجتماعي من شأنها أن تجسر الهُوَّة بين الجماعات الإنسانية المختلفة التي فرّقَت بينهم الانتماءات العرقية والدينية والسياسية. يبدو هذا الأمر واعداً ولكن علينا أن لا نقع بفخ التبسيط هنا. فنتائج الدراسة قدّمَت مُعطَيات مجرَّدة حول ظاهرة أصبحت تتشكل مؤخراً وتتعلق بالتواصل الذي أصبح أقل كلفة ويستهلك وقتاً أقلّ ويتخطى الحواجز النفسية والجغرافية، وهي الحواجز التقليدية التي لطالما وضعت حدّاً لتواصل البشر في ما بينهم.

التحذير من الانزلاق نحو التبسيط المخلّ يأتي من كون الحديث لا يقتصر على احتساب معيار الاتصال/التواصل كمّيّاً أو شكليّاً بل ونوعيّاً أيضاً. نعم في نسب الاتصال/التواصل تزايد، وتختلف أشكالها كثيراً هذه الأيام كما كانت عليه قبل عقدين من الزمن ولكن ليس شرطاً أن يقود هذا إلى تعميق الفهم حول الآخر، ومِن ثَمَّ اتساع هامش التسامح والتقبل والاستيعاب ضمناً.

في كتابة المشهور "المستقبل: ستة محركات للتغيير العالَمي" يُورِد المرشَّح السابق للرئاسة الأمريكيَّة آل غور أن العولمة وما تحمله في جعبتها من تكنولوجيا المعلومات التي جعلت الكوكب عبارة عن قرية صغيرة بالفعل، وقرّبت الشعوب بعضها من بعض بطريقة لم تشهد البشرية مثيلاً لها من قبل من شأنها أن تزيد الصراعات والنزاعات وتهدّد البشرية بمزيد من الحروب. إن حشر الناس ضمن أقاليم مكتظَّة على الجانب الجغرافي أو حشرهم في مجال تواصلي عبر الإنترنت من شأنه أن يرفع نسب التهديد. فكل جماعة سوف تشعر أنها باتت مهدَّدة أكثر من الجماعات الأخرى وأنها في سبيلها إلى الذوبان، وبذلك يتم الالتجاء إلى الهُويَّات الضيقة والاعتصام بها خوفاً من الذوبان، وهذا في حد ذاته من شأنه أن ينشر حالة من عدم الاستقرار واليقين.

لأجل لذلك علينا الانفتاح على الاتجاهيين معاً، والعمل على دراسة الظاهرة بشكل أعمق لنتبين أي الاتجاهين بالفعل أقرب إلى الحقيقية، هل الإنترنت وتكنولوجيا المعلومات فعلاً تحفز على إشاعة التسامح بين البشر، أم تنزع إلى خلق مزيد من الحروب والنزاعات.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِّر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً