تابعنا
يُمثل تصاعد التوتر بشأن قضية إدلب السورية بين تركيا من جهة وروسيا ونظام بشار الأسد وإيران من جهة أخرى نقطة حرجة لما يحمله من إشارات عن الاتجهات التي ستؤول إليها الحرب في سوريا، كذلك على صعيد مستقبل العلاقات التركية الروسية.

 فبعد اكتسابها زخماً في الأعوام الأخيرة ووصولها إلى بعد استراتيجي، تأثرت العلاقات التركية-الروسية سلباً على خلفية التوتر الذي شهدته منطقة إدلب في الآونة الأخيرة. وحتى لو نجحت المباحثات على مستوى الزعماء بين البلدين في تجميد الأزمة مجدداً، إلا أن اختلافات كبيرة تبدو في موقف كل من تركيا وروسيا من قضية إدلب.

فالأهداف الاستراتيجية لتركيا بخصوص إدلب تتمثل في انسحاب قوات النظام السوري إلى خلف نقاط المراقبة التركية المنصوص عليها ضمن اتفاقية سوتشي، ومن ثم توفير مناطق آمنة دائمة للمدنيين في هذه المنطقة.

فالسبب الرئيسي وراء دعم تركيا محادثات أستانا وسوتشي يتمثل في توفير مساحات آمنة في هذه المناطق، وإبقاء موجات النزوح داخل الجانب السوري من الحدود. ومنذ خمس سنوات، تدافع تركيا بوتيرة راسخة عن فكرة تأسيس منطقة آمنة للمدنيين في المنطقة. وتواصلت مع الولايات المتحدة واللاعبين الأوروبيين بشأن هذا الموضوع.

غير أنها لم تلمس حتى هذه اللحظة نتيجة مادية في هذا الصدد. ودعمت تركيا اتفاقية سوتشي ونقاط المراقبة الناجمة عن التنسيق مع روسيا، كونهما يمثلان أقرب نتيجة لخطتها المتعلقة بالمنطقة الآمنة.

وفي المرحلة التالية أرادت تركيا إعادة إنشاء مناطق عمليات درع الفرات وغصن الزيتون ونبع السلام إلى جانب مناطق خفض التصعيد المنصوص عليها ضمن اتفاقية سوتشي، من أجل إعادة اللاجئين السوريين الموجودين في تركيا تدريجياً إلى هذه المناطق.

غير أن مواصلة النظام السوري هجماته منذ 6 شهور على مناطق خفض التصعيد المنصوص عليها ضمن اتفاقية سوتشي جعل الأمر حرجاً للغاية بالنسبة إلى تركيا. وإذا تواصلت الهجمات على هذا النحو فلن تتبقى أية مساحات وبنى تحتية قادرة على استيعاب عودة السوريين الموجودين في تركيا المقدر عددهم بنحو 4 ملايين.

في الواقع، فإن روسيا والنظام السوري يسعيان إلى حد ما من أجل تحقيق ذلك. وإلى جانب القضاء على فكرة إمكانية عودة اللاجئين، توجد أيضاً احتمالية نزوح نحو 3 ملايين مدني إلى الحدود التركية.

وقد تجاوز بالفعل عدد النازحين خلال الشهرين الماضيين مليون شخص. وإذا لم تتدخل تركيا فستجد نفسها وجهاً لوجه أمام أكثر من 7 ملايين سوري بلا أرض. وعلى الرغم من ذلك لا يوجد أي لاعب دولي يقف إلى جانب تركيا في هذه القضية.

وهذا وضع لا يمكن لتركيا تحمُّله أو السكوت عنه. هذا الأمر يعني زعزعة استقرار تركيا على المدى الطويل، ولا يمكن قبول سيناريو هكذا البتة. وعند النظر في هذه الظروف والملابسات نجد تركيا وصلت إلى نقطة تجعلها تقوم بأية مخاطرة، بما في ذلك التوتر مع روسيا. وحتى لو كانت أولوية تركيا هي تسوية الخلافات مع روسيا بالطرق الدبلوماسية، فإنه مع زوال هذا الخيار قد تجد نفسها مضطرة إلى الخيار العسكري ضد نظام الأسد.

ما الذي تسعى روسيا والنظام لتحقيقه؟

لا شك أن روسيا تقوض بخطواتها الأخيرة جهود تسوية الأزمة السورية عبر حل سياسي. وتسعى مع النظام السوري لفرض الحل العسكري. فهي تريد من تركيا إبعاد هيئة تحرير الشام والعناصر الراديكالية من إدلب ومحيطها بشكل كامل.

غير أن الروس لا يرون أية اختلافات بين عناصر المعارضة، فهم يريدون أيضا إبعاد عناصر المعارضة المعتدلة مثل الجيش الوطني السوري والجيش السوري الحر من المنطقة بشكل كامل.

وفي ظل هذه الظروف لن يوجد درع لحماية المدنيين في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة. فعناصر النظام السوري يقومون بهجمات دنيئة ويرتكبون فظائع في المناطق التي يدخلونها. وينشرون بعض هذه الهجمات عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وتضم هذه الفظائع استهداف المدنيين وحتى المقابر والمساجد. وهي أعمال مخطط لها لإجبار المدنيين على الهجرة والنزوح. ولا يمكن لعناصر المعارضة أن تسكت عن عدوان هكذا.

فيما تزعم روسيا أن تركيا لم تنفذ تعهداتها بخصوص هيئة تحرير الشام التي لا يزال عناصرها مسيطرين إلى حد كبير على مركز مدينة إدلب وبعض المواقع في ريفها. لكنّ استهداف روسيا والنظام السوري للمعارضة المعتدلة والمدنيين يساعد في تعزيز قوة هيئة تحرير الشام وعناصر المعارضة الأكثر راديكالية.

وعلى الجانب الآخر، انسحبت هيئة تحرير الشام من الخط الحدودي مع عناصر النظام، أملاً في حدوث مواجهة مباشرة بين تركيا ونظام الأسد. ويمكن القول إنهم نجحوا نسبياً في تحقيق ذلك. ولهذا يعود الفضل في اجتياح النظام السوري لريف إدلب وتقدمه السريع هناك. ولا شك أن استهداف روسيا والنظام للعناصر المعتدلة يعزز العناصر الأكثر هامشية. ولن تكون مفاجأة إذا هاجموا في مرحلة تالية جميع هذه العناصر الراديكالية مجتمعة، في محاولة للحصول على نتيجة شبيهة بما جرى في غروزني بالشيشان.

كذلك الممارسات العدائية التي يرتكبها عناصر النظام في المناطق التي يدخلونها تزيد سرعة وتيرة هروب المدنيين ونزوحهم. هم يسعون في الواقع إلى إنشاء مساحات تطهير سياسي في المنطقة.

يستهدفون البنية التحتية الإنسانية بشكل كامل معتمدين في ذلك على سياسة القضاء على الإنسان والتجريد الإنساني. وتتقلص إلى حد كبير المساحات الممكن أن يلجأ إليها المدنيون. وتبقى الحدود التركية ومناطق عمليات درع الفرات وغصن الزيتون هي جهتهم وخيارهم الوحيد.

وهذا الأمر يثقل بطبيعة الحال كاهل تركيا بمزيد من الضغط من الناحية الاستراتيجية. فقد سيطر عناصر النظام على الطرق الاستراتيجية M4 وM5 ويضيقون الخناق على عناصر المعارضة الموجودين في جنوب هذه المنطقة وشرقها لدفعهم إلى المناطق المتاخمة للحدود التركية.

لا شك أن الممارسات الروسية الأخيرة في إدلب تسببت في إلحاق أضرار كبيرة بثقة تركيا بها. غير أنه إذا نجحت تركيا في إفشال الاستراتيجية العسكرية الجديدة التي تنفذها روسيا ونظام الأسد منذ 6 شهور، فسيضطر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى التدخل مجدداً، لكن هذه المرة لن يلمس لدى مُخاطِبه الثقة التي اعتاد عليها سابقاً.

ولعل من الأسباب الرئيسية وراء تجاهل روسيا اتفاقية سوتشي بهذه السهولة، عدم دعم تركيا من جانب حلفائها، الولايات المتحدة و"الناتو" واللاعبين الأوروبيين، كذلك عدم امتلاك أنقرة منظمة دفاع جوي أو دعم جوي قريب.

فما كان لروسيا أن تنتهك البنود المتفق عليها في اتفاقي أستانا وسوتشي بهذه السهولة، لو كانت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي أظهرا خلال الفترة الماضية تضامنهما مع تركيا فيما يتعلق بالقضية السورية على الأقل. ولا شك أيضاً أن أي تقارب قد يحدث بين تركيا والولايات المتحدة على خلفية التهديدات القادمة من سوريا لن يكون على هوى روسيا. لكنّ الحملات العدائية التي استهدفت القوات التركية في سوريا مؤخراً، تمهد الطريق أمام ذلك.

تركيا تنتظر من روسيا انسحاب النظام إلى خلف نقاط المراقبة المتفق عليها في سوتشي ووقف الهجمات على المناطق المدنية. غير أن الإشارات المتعلقة برغبة روسيا في تسوية الأزمة السورية عبر حل سياسي تبدو ضعيفة.

فالحل السياسي بالنسبة إلى الروس يعني ضمان المكتسبات التي حُققت عسكرياً في الميدان من الناحية السياسية. وهذا الأمر يتعارض في الواقع مع منطق الحل السياسي. ولا شك أن استهداف روسيا والنظام السوري للقوات التركية داخل نقاط المراقبة المنصوص عليها ضمن اتفاقية سوتشي واستمرار موجات نزوح اللاجئين نحو الحدود التركية سيتسبب في استمرار تردي العلاقات التركية الروسية.

غير أن هذا الوضع قد يُتجاوز في حال تدخل زعيمي البلدين، وتوصلهما إلى اتفاق، وتبنيهما لخطوات جديدة تعزز الثقة بين الجانبين. روسيا في الوقت الراهن تتهم تركيا بعدم مكافحة الإرهاب بشكل كافٍ. لكنّ الهجمات العدوانية التي ينفذها النظام السوري بذريعة "مكافحة الإرهاب"، ما هي إلى ممارسات تعود بالنفع على المجموعات الراديكالية وتدعم توجهاتها.

إن العلاقات الدبلوماسية والعسكرية بين تركيا وروسيا تسير وفق المستجدات الميدانية وتتقدم في توازن حساس. ولا شك أن فسخ هذا التوازن وتخريبه لن يعود بالنفع على الجانبين، لذا فليس من المرجح أن يخطو الطرفان في المرحلة الأخيرة خطوات تفسخ هذا التوازن.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِّر بالضرورة عن TRT عربي. 

TRT عربي
الأكثر تداولاً