تابعنا
تؤكّد الرواية السعودية تورُّط المستوى الرسمي في قتل خاشقجي، ولو كانت الدولة أمينة لقدّمت القصة كاملة كما هي منذ البداية، ولما أخذت المسألة كل هذا التحليل والطعن في السعودية.

استمعت جيداً لكل البيانات السعودية التي صدرت عقب قتل الصحفي جمال خاشقجي، ولم أجد فيها ما هو مقنع للمستمعين. شابَ البيانَ الأول غموض كبير حول كيفية استدراج خاشقجي، وحول إعداد طاقم الإجرام، وكيفية استعمال القنصلية في تنفيذ الجريمة. ولم يتحدث أبداً عمَّن أمر بتنفيذ الجريمة، ولا عن مكان الجثة، إلخ. وحتى الآن بعد مضي هذا الوقت الطويل، لم يتم الكشف عن ملابسات هامة في كل مجريات الجريمة.

أنا لست مختصّاً بالقوانين الجنائية والجزائية، ولا بمجريات المحاكم وإجراءاتها، لكنني على علم متواضع ببعض القضايا غير الشائكة وأستطيع قراءة الادِّعاءات وما يفنّدها. ولهذا حاولت أن أتلمس الصدق في بيان الادِّعاء السعودي حول الحكم بالإعدام على بعض الأشخاص المتورطين بقتل خاشقجي وتبرئة آخرين على رأسهم سعود القحطاني الذي توارد اسمه باستمرار في وسائل الإعلام العالَمية كمنسق للجريمة. وقد لاحظت التالي:

أولاً: حسب أعراف المحاكمات لا يجوز للادّعاء أن يكون الجهة التي تعلن عن الأحكام القضائية، لأن ذلك من اختصاص القضاء نفسه. الادِّعاء طرف في القضية، كما هو في العادة طرف في أي قضية جزائية، ولا يحقّ لطرف في القضية أن يعلن أحكاماً قضائية. وهذا الإعلان يدفع المستمع إلى التساؤل حول الذي أدار التحقيق وعملية إصدار الحكم. ما أعرفه أن الادِّعاء يحقِّق، ويتوجه بعد ذلك إلى القضاء إذا رأى أن نتائج التحقيق تبرِّر تهماً ملموسة الأدلَّة. من الصعب أن نرى على المستوى العالَمي ادِّعاءً عامّاً قضائيّاً، فقط عند الأنظمة العربية.

ثانياً: لم أجد في خطاب الادِّعاء السعودي حلّاً للمشكلة الإنسانية الخاصَّة بعائلة خاشقجي وخطيبته. من حق أهل خاشقجي وذويه أن يعلموا مصير الجثة، وأن يلمّوا بقاياها إن كانت قد دُفنت، ويدفنوها باحترام وفق الأصول الإسلامية. من البديهي أنه إذا تم التحقيق بصورة جادة أن يعرف المحققون عن المقاول التركي الذي تَسلم الجثة، وعن المكان الذي دفنها فيه.

من غير المعقول أن يبقى اسم المقاول التركي مجهولاً، وكذلك مكان إلقاء الجثة. وإذا كان طاقم الإجرام لا يعلم أين المكان فإن تركيا تستطيع أن تعرف إذا تم الكشف عن اسم المقاول. كل عائلة تريد تَسَلُّم جثامين موتاها، وتريد دفنهم بالطريقة اللائقة وأن تطمئنّ لوجود قبر يجسد حياة قد انتهت. وأرى أن عدم الإفصاح عن مكان الجثة يشكِّل استهانة كبيرة بمشاعر وأحاسيس ذوي خاشقجي، وذلك بحد ذاته جريمة إنسانية.

ثالثاً: كنا نعلم من وسائل الإعلام التي تابعت قضية خاشقجي أن عدد الطاقم الذي نفذ الجريمة أقلّ من 30. تحدث الادِّعاء السعودي عن 33 شملهم التحقيق. من أين جاء هذا الرقم؟ من المحتمَل أنه كان لطاقم الإجرام طاقم ظهير ينسِّق بشأن ترتيبات داخلية تخصّ التأكُّد من نجاح العملية. وهذا أمر لم يتم الإفصاح عنه بخاصة أن القضية ليست مجرد قضية محلية عابرة. قضية خاشقجي تحولت إلى اهتمام عالَمي ومن المفروض لمن أراد أن يصدقه الناس والدول أن يكون واضحاً وشفافاً حتى لا يترك ظنوناً وطعوناً في رواياته.

رابعاً: كان من المفروض أن تكون قضية خاشقجي أمام القضاء علنية لكي يتأكد العالَم من براءة الدولة السعودية من دم القتيل. لم تتابع وسائل الإعلام مجريات القضية، ولا نعلم أين جرت المحاكمات، ومن الذي حقّق بالقضية قضائيّاً. ولم نعلم عن محامي الدفاع، والموادّ التي تم تقديمها لهم، ولم نعلم عن مدى حريتهم في البحث عن الحقائق، ومدى التقيُّد بالقوانين من قبل الادِّعاء والدفاع على حد سواء. فهل ستكشف الدولة السعودية عن مجريات المحاكمات، وعن التهم التي كانت موجهة إلى كل شخص؟

خامساً: محاكمة من هذا القبيل كانت تتطلب وجوداً أمميّاً ممثَّلاً في الأمم المتحدة وجمعيات حقوق الإنسان، وحضوراً تركيّاً أيضاً لأن الجريمة وقعت على أراضيها. والمفروض أن هذه قضية قتل مواطن سعودي يجب أن يكون التحقيق فيها بعيداً عن السياسة والمواقف السياسية. ربما كانت عملية القتل سياسية، لكن المحاكمة مسألة قانونية أخلاقية لا علاقة للعلاقات السعودية التركية بها. ومن المفروض أيضاً أن يُسمَح لجريدة واشنطن بوست بحضور جلسات المحكمة لأن القتيل كان يكتب لها.

سادساً: من المفروض أن يتوافر شرح قضائي يُظهِر في تفاصيل الحكم حول أسباب الحكم بالإعدام على بعضهم وتبرئة بعضهم الآخر. من المتوقع أن يُشهَر القرار القضائي إن وجد وفق قواعد المحاكمات الشفافة أمام العالَم.

وفي كل الأحوال، لا أجد حتى الآن أن السعودية وفية وأمينة في ما يتعلق بقضية خاشقجي. وفي كل مرة تتحدث فيها السعودية عن وجه من وجوه القضية تورِّط نفسها بالمزيد. لم يتوافر لدى السعوديين الرسميين ذكاء في إخفاء التفاصيل وتقديم سردية مقنعة للناس جميعاً إلا من نفر قليل مستفيد من الأموال السعودية.

وفي كل مرة تؤكد الرواية السعودية تورط المستوى الرسمي في قتل خاشقجي، ولو كانت الدولة أمينة لقدمت القصة كاملة كما هي منذ البداية، ولما أخذت المسألة كل هذا التحليل والطعن في السعودية. السعودية لم تكُن مقنعة وأساءت لنفسها بقوة لأنها تركت لوسائل الإعلام مبررات قوية للهجوم عليها وعلى أدائها غير الديمقراطي وغير الإنساني. ودائماً قول الحقيقة يريح صاحبه ويريح الآخرين.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِّر بالضرورة عنTRTعربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً